كان تفجير جامع الروضة هو الأفظع من حيث عدد الضحايا. بيد أن فظاعته تتجاوز الأعداد إلى أمورٍ أُخرى لا تقل عن ذلك فظاعة. فهو مسجدٌ، والضحايا، كباراً وصغاراً، حضروا لصلاة الجمعة والجماعة. والهجوم لا يستهدف الجيش وقوات الأمن مَثَلاً، بل هم مدنيون لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. وهذا أدى إلى استقصاد القتل أكبر عددٍ ممكن. كما هو المعروف عن إدارة التوحش لدى «داعش» وأشباهه من مجموعات الإجرام الهمجية.
مضت على مصر قرابة السنوات الأربع في العاصفة الأخيرة من عواصف الاستهداف للدولة المصرية والمجتمع المصري. وهي الفترة ذاتها التي هبّت خلالها عواصف مشابهة على سوريا والعراق وليبيا والجزائر ومالي ونيجيريا. والتشبيه يتعدّى الأعداد الغفيرة من الضحايا، وطرائق الهجمات، إلى محاولة الاستيلاء على مناطق والتحصن بها.
وفي كل مرة بعد إحدى الهجمات المتوحشة، تنطلق جوائح اللوم على القوى الأمنية لأنها لم تتوقع الهجوم فلم تستعد له. كما ينطلق الهجوم على الأزهر، لأنه لا يكفّر قوى الإجرام هذه التي تكفّر الجميع، وتقتلهم.
لا يمكن لقوات الأمن وضع حراساتٍ على المائة ألف مسجد بمصر. ولذلك فإنّ على الجماعات المحلية أن تلعب دوراً في حماية دور عبادتها، وأماكن تجمعاتها في الأفراح والمآتم. والدولة المصرية منذ آمادٍ وآماد، لا تقبل تكوين ميليشيات أو الاستنصار بجماعاتٍ محلية، التي ما تلبث أن تجد لنفسها وظيفة أُخرى أو وظائف تبرر استمرارها وازدهارها، فتصبح مشكلة مستجدة، ويضيع بالتدريج معنى انفراد الدولة بالرعاية والحماية للمجتمع وحياته وأمنه وحرياته. وقد جربت دولٌ عربية وإسلامية وعالمية هذه المسألة، وما كانت التجارب إيجابية ولا تستحق التقليد. فحتى الولايات المتحدة ذات التقاليد في إجازة حمل الأفراد للسلاح، صار ذلك السلاحُ فيها عبئاً على السلطات وعلى المواطنين، لكنّ لوبي السلاح وحمله دون قيدٍ ولا شرط أو بضوابط قليلة ظلَّ حتى الآن أقوى من الإرادة العامة. أما الدول العربية والإسلامية التي كوَّنت ميليشيات أو سلَّمت بها، فلأنّ سلطاتها كانت ضعيفة مثل لبنان، فما استطاعت المنع، وتظاهرت بالقبول من أجل «التحرير»، ثم ها هي الآن تخضع لسيطرة أقوى تلك الميليشيات، ولا تزال تتظاهر بالعجْز أو بالفرح، بعد أن لم يعد هناك تحريرٌ ولا من يحزنون! والسبب الآخر لظهور الميليشيات في الدول أنّ السلطات تكون في بعض الأحيان سلطات قلة، فتكثف من وجود الميليشيات الظاهرة والباطنة ليظلّ الناس تحت السطوة والسيطرة بسبب عدم الثقة بالأكثرية الاجتماعية، مثلما هو عليه الحال في سوريا والعراق.
إنّ الدولة المصرية ليست ضعيفة أبداً، ولا سلطاتها سلطات قلة. ويزيدها قوة وثقة تَوقُ الناس إلى الأمن، وانتظام الحياة والعيش والعمل. ولذلك إن كان لا بد، لأنّ الاستهداف شاملٌ حتى دورَ العبادة (كما حصل للكنائس القبطية من قبل)؛ فإنّ الجماعات المحلية -كما سبق القول– يمكن لها أن تعمل للحماية أو كطليعة إنذار. ولا شكّ أنّ السلطات قد فكرت في شيء من هذا القبيل.
مَن هم هؤلاء، ومن أين يأتون؟ هم مجموعاتٌ إجرامية محلية تتوالد وتتناسل، وتفيد في كل مرة من التذمرات والمشكلات الموجودة في كل الدول. لكنّ العناوين التي تتخذها لنفسها في كل فترة قَبَلية كانت أو تحررية أو إسلامية، مصنوعة في الخارج، من جانب الجهات التي تستهدف مصر وأمنها ودورها واستقرارها. ولستُ أزعُمُ أنني أعرف كل شيء أو حتى معظم الأشياء في أدوار الجهات الخارجية، وطرائق التواصل والتوجيه. وحتى الانتماء إلى «داعش»، فالذي أراه أنه للتعمية من جانب الجهات التي تستهدف مصر. وربما كانت الهجمة الوحشية الأخيرة على مسجد الروضة عِلّتها تعطيل المصالحة التي تقودها مصر بين فتح وحماس في غزة. ولذلك يكون على «حماس» أن تتنبه إلى ذلك. فالتجارة بالكفاح المسلح من أجل فلسطين من جانب عدة جهات ومنذ عقود، لا تزال رائجة، وبشعاراتٍ متقلبة بين اليسار والقومية والإسلام. والدليل على «استيراد» كل شيء من الشعارات إلى الممارسات الفظيعة، هذا الهجوم على المسجد والمصلين. فحتى لو كان هؤلاء انشقاقاً في الإسلام، لما تجرأوا بل ولا خطر ببالهم ذلك، لأنه يُفقدهم أي معنى أو مغزى أو هدف في المجتمع أو الدين الذي يحملون شعاره. ولذلك عجبتُ للذين أصرّوا على أن المسجد للصوفية، كأنما الذين استهدفوا المصلين بالقتل والاستعراض هم من المتشددين المعادين للصوفية! هؤلاء مجرمون متوحشون مُستخدَمون ضد مصر وسلطاتها ومجتمعها، ولا علاقة لهم بأي دينٍ أو اعتقاد. ولو لم يكونوا مدفوعين ومدعومين من خارج باعتبارهم مرتزقة لمن يبذل أكثر، لانتهوا من زمان!
ولذلك أيضاً أنا ضد الانهماك في التفاصيل مثل التكفير، فهؤلاء لا دوافع دينية لديهم بحيث يتأثرون أو يتأثر أنصارهم المحتملون بهذه الاستراتيجية. عندما أراد «حزب الله» التدخل في سوريا عام 2013 سمَّى سكان القرى السورية على الحدود اللبنانية تكفيريين، وأعداءً لآل البيت ومزاراتهم. وقيل للجمهور الشيعي: إنْ لم تغزوهم فسيصلون إلى النجف وقُمْ! وبعد أربع سنوات، وبعد اجتياح سوريا كلها باعتبار شعبها كافراً كلَّه، ما عاد أحدٌ من الإيرانيين أو المتأيرنين يتحدث عن ضرورات التكفير لتبرير الهجمات على الشعب السوري، وسادت مقولة إنّ المراد حماية نظام الممانعة، وإدخال سوريا في المحور الإيراني! ولو صدقْنا أنّ الحزب إنما ضرب في سوريا دفاعاً عن الدين الصحيح، لوجب أن نعتبر الروس والأميركيين والأتراك الذين ضربوا بالداخل السوري أيضاً، أكبر المدافعين عن صحيح الدين! ولذلك فقد كنتُ أعجب في السنوات الماضية من استخدام وسائل الإعلام المصرية النبز بالتكفير سلاحاً في الحرب على هذا الإرهاب الذي يمارسه مجرمون متوحشون مدفوعون ومصنوعون حتى في شعاراتهم! إنما المسألة اليوم وغداً ومسؤوليتنا جميعاً: كيف نخرج بإسلامنا من مآزق ومخادع الاستخدام، وكيف لا يعود ديننا قابلاً للاستخدام من أيٍّ كان؟
عنونت الفصل الأخير في كتابي «أزمنة التغيير، الدين والدولة والإسلام السياسي» (2014)، ومعظمه عن مصر، بـ«من الخوف من الدولة إلى الخوف عليها». نعم، إنّ الأَولوية الآن وإلى سنواتٍ قادمة هي: استنقاذ الدولة الوطنية في العالم العربي، ومصر هي طليعة هذا التوجُّه ليس باعتبار الحجم والدور فقط؛ بل باعتبار الواقع أيضاً. تتحمل مصر أعباء الكثرة السكانية، وتفاقم المشكلات الاقتصادية، لكنها أنجزت برنامجاً للخروج من الأزمات، وعاد إليها حكم القانون، وتمتلك مؤسساتٍ راسخة. ومشكلة أعداء مصر مع هذا الرسوخ، وهذه الصلابة، والوطنية العالية التي يتميز بها المصريون. بيد أنّ قوة مصر لا تكمن في ذلك كله فقط؛ بل وفي إحساسنا جميعاً، عرباً ومسلمين، بأنه لا عروبة من دون مصر، فهي داعمة الإسلام؛ وعلى ذلك نشأنا، وبهذه الثقة نحيا.
لقد عنونتُ لهذه المقالة باستعصاء مصر على الإرهاب. وقصدتُ بذلك: الإجرام الذي تمارسه عدة جهات لضرب ثقة مصر بنفسها وانتمائها ودورها وشرعية الدولة فيها. ولولا يأس تلك الجهات وأدواتها لما اضطُّرت إلى القتل في المساجد، كما قتلت في الكنائس من قبل. ينتهي الإرهاب والإرعاب بقوة المصريين وثقتهم بأنفسهم ودولتهم ودينهم. لكننا جميعاً لن ننسى شهداءنا، ولن ننسى الذين استهدفونا في هذا الهول العظيم. يا للعرب، ويا للإسلام!