من الواضح أن نظام الجمهورية الإسلامية لا يمتلك برنامجاً أممياً لتصدير الثورة على المنوال الذي وعدت به الامبراطورية السوفياتية في العقود الغابرة. وعليه فإن عواصم القرار الغربية لم تقلق يوماً مما قد تشكّله القوة الإيرانية المزعومة من خطر على أمن بلدانها الاستراتيجي، وأن رؤية باراك أوباما للوصول إلى اتفاق نووي مع طهران كان هدفه صدّ أي محاولة لكسر احتكار إسرائيل للامتياز النووي، بالتالي وقف الخيار العسكري الذي كان يلوح لتحقيق ذلك.
بيد أن إيران التي كانت تدرك الطابع المستحيل لأحلامها النووية، لم تكن تروم من ورشتها النووية إلا اعترافاً دولياً كاملاً يقرّ بها دولة كبرى في الشرق الأوسط ويقرّ بنظامها السياسي الحالي كثابتة نهائية في تاريخ إيران الحديث.
والحال أن قناة حوار أميركي- إيراني كانت فتحت في مسقط أسست بالنسبة لطهران لهذا الاعتراف. كان واضحاً أن واشنطن تقارب طهران من وراء ظهر عواصم المنطقة، لا سيما حلفائها في الخليج، بالتالي كان من حقّ إيران أن تفاخر بأن صلاتها بـ «الشيطان الأكبر» باتت تتم من فوق رؤوس أهل المنطقة، بما يدشّن شراكة فوقية تعيد منح إيران وظيفة «شرطي المنطقة»، على ما كان سائداً قبل ذلك في عهد الشاه.
لم تتطابق حسابات الحقل الإيراني مع حسابات البيدر. انتهت حقبة الحرب الباردة التي كانت تتيح لإيران أن تكون شرطياً مفترضاً لمنطقة تتنازعها أهواء الشرق والغرب. ولم تعد الأنظمة السياسية لدول المنطقة تابعة بالمعنى الأعمى لما تقرره كواليس القصور الدولية الكبرى. بدا أن بلدان المنطقة وخصوصاً في منطقة الخليج باتوا يجيدون التمرد على خيارات تحلّق فوقهم أو على سياسات تُمرر خلفهم. فإذا ما كان للتمدد الإيراني في بلدان المنطقة صدى الكبار في عواصم الكبار، فإن معاندة نفوذ طهران في كافة ميادينه خنق كل صدى وأعاده خافتاً إلى منابعه.
ليس في الأمر مبالغة حالمة. لم تعد طهران تتحدث عن سيطرتها على أربع عواصم عربية. توقف متغطرسو إيران عن اعتبار بلدهم إمبراطورية وهم عاصمتها. لم تعد إيران عاملاً يهدد أمن الخليج من الخاصرة اليمنية. ولم يبق لإيران إلا ميليشيات مذهبية يزورها قاسم سليماني في سورية والعراق، فيما تتشابك مصالح واشنطن وموسكو كما خطب الكرملين والبيت الأبيض على استشراف حقيقة أن انسحاب إيران من البلدين بات مسألة وقت، لأن ما بعد داعش لا يحتمل أوراماً كانت وراء ظهوره.
وإذا ما كابر المتكابرون في الاعتراف بهذا الواقع، فإن طهران لا تكابر وتدرك أمر ذلك تماماً. تعيد إيران استدراج العالم من جديد نحو طاولة مفاوضات معها، من دون غيرها، حول برنامجها للصواريخ الباليستية. تسعى طهران من خلال التهويل بصواريخها تحقيق ما فشلت في تحقيقه من خلال التهويل بقنبلتها النووية. يعرف أولو الأمر في إيران أن الحضور الإيراني في العراق وسورية واليمن ولبنان لم يعد ناجعاً لتحقيق هيمنة إيرانية لكنه ما زال فاعلاً لعرقلة وتخريب أية حلول وتسويات في تلك البلدان. بالتالي تدرك طهران أن عليها أن تدافع عن نصيبها في حقول المنطقة أو أقله تعظيم حجم ما يمكن أن تناله من أي تسوية مقبلة.
تعمل طهران وفق عدّة شغل باتت متقادمة. يخرج الجنرال محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري الإيراني ليعلن للعالم أن مدى الصواريخ الإيرانية الذي يبلغ ألفي كيلومتر يمكن أن يغطي «معظم المصالح والقوات الأميركية» في المنطقة، ومن ثم فإيران لا تحتاج لزيادته.
ومحدودية المدى الصاروخي عائد، بحسب جعفري، إلى أنه يقوم على أساس ما أمر به المرشد علي خامنئي.
غير أن إعلاناً آخر من نائب قائد الحرس الثوري الإيراني هذه المرة جاء ليكشف الوجهة الجديدة للابتزاز الإيراني المقبل. لن تكون أوروبا بعيدة عن مرمى الصواريخ الإيرانية. هكذا يهدد العميد حسين سلامي. يقول: «حتى الآن نشعر أن أوروبا لا تمثل تهديداً لنا، ولذلك لم نزد مدى صواريخنا، ولكن إذا كانت أوروبا تريد أن تتحول إلى تهديد فسنزيد مدى صواريخنا».
الرسالة واضحة: تعالوا نتفاوض لكي تأمنوا شرنا. وقد يغري طهران ما يصدر عن عواصم الاتحاد الأوروبي من مواقف تؤكد الابتعاد من خيارات دونالد ترامب في مواجهة إيران. باريس ولندن وبرلين وغيرها متمسكة بالاتفاق النووي، وفي هذا ما يوسّع هامش المناورة لدى إيران. بيد أن ذلك التمرد الأوروبي على حرد واشنطن من الاتفاق النووي يتواكب مع تطوّر الموقف الأوروبي لمصلحة ذلك الأميركي في شأن البرنامج الصاروخي الإيراني.
فجأة يكتشف إيمانويل ماكرون أن الاتفاق النووي «لم يعد كافياً»، وأن على المجتمع الدولي مراقبة البرنامج الصاروخي لطهران. لا تريد إيران إلا ذلك.