طوت قمة أبيدجان أعمالها بالتوصل إلى قرارات تبدو للبعض من المتابعين مقنعة لجهة لملمة الملف الأكثر إثارة للجدل في الفترة الأخيرة وهو ملف اللاجئين في ليبيا، لكن العديد من الخبراء والمحللين يؤكدون أن هذه القمة لن تختلف عن سواها طالما لم تكن هناك إرادة حقيقة للبحث والتعمق في الأزمات الحقيقية، فيما يربط آخرون المشكلة بطبيعة العلاقة غير المتوازنة بين القارتين في العديد من المستويات، وبالتالي فإن التكهن بالتوصل إلى حلول ممكنة وعاجلة يظل فرضية تتقاذفها الأقدار
 

أنهت القمة الأفريقية الأوروبية الخامسة بأبيدجان، والتي حملت شعار “الاستثمار في الشباب من أجل مستقبل مستدام”، الخميس، أعمالها المشتركة. وناقش خلالها قادة أكثر من ثمانين دولة العديد من الملفات والقضايا الساخنة التي تهم الجانبين الأفريقي والأوروبي، لا سيما تعزيز الاستثمارات الأوروبية للنهوض باقتصاد القارة الأفريقية ودعم العمل المشترك في مجالات الشباب والهجرة والأمن ومقاومة الإرهاب والتطرف.

وطُرحت على طاولة هذه القمة العديد من القضايا الشائكة بين القارتين التي اهتمت بالخصوص بالشباب ومواضيع الأمن والتهديد الجهادي للمتشددين التي تواجهها القارة وتداعياتها على المنطقة، لكن مداخلات القادة تركزت بشكل مستفيض حول ملف الهجرة وما أثارته قضية الاتجار بالبشر في ليبيا من ردود فعل داخل الأوساط العربية والعالمية.

وكانت أسوأ قضية هزّت العالم في الأسابيع الماضية وأعادت إلى الأذهان أكثر القضايا إحراجا لبعض الدول، ما كشف عنه تحقيق لمصور بشبكة “سي إن إن” الأميركية عن بيع مهاجرين أفارقة رقيقا في ليبيا.

ورغم ذلك يقر باحثون بأن هذه الأعمال كانت معروفة لدى القادة الغربيين والأفارقة الذين أبلغتهم بها منظمات غير حكومية. وقال رئيس الكوت ديفوار الحسن وتارا خلال الجلسة الختامية للقمة “لا بد من عمل إنساني عاجل في ليبيا”، مشددا على ضرورة “وضع حد لشبكات المهربين” و”فتح تحقيق دولي”.

فيما طالب نظيره الغاني ألفا كوندي، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأفريقي، بأن تكون لجنة التحقيق تحت إشراف لجنة حقوق الإنسان التابعة للاتحاد الأفريقي، كما طالب كوندي بتشكيل “قوات خاصة لمحاربة مهربي البشر”.

ولكن وفق ما يقرّ به الخبراء والمحللون المتابعون لمخرجات هذه القمة، فإن العاهل المغربي الملك محمد السادس وضع يده على الجرح الذي تسبب للأفارقة كما الأوروبيين في مشكلات كبيرة أظهرت للعالم ضعف التنسيق في مسائل حيوية كهذه (الهجرة وغيرها)، وذلك من خلال تأكيده على أن لا مخرج لكل هذه الأزمات إلا بإحياء الاتحاد المغاربي.

ومن جهته أعلن رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي محمد أنه يجب إجلاء حوالي 3800 مهاجر أفريقي في ليبيا بشكل عاجل، مؤكدا على أنّ “العدد الإجمالي للمهاجرين في هذا البلد يتراوح بين 400 و700 ألف”. وقال إن هناك “42 مخيما للاجئين على الأقل” في ليبيا.

وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن عمليات الإجلاء ستبدأ في “الأيام أو الأسابيع (المقبلة)”، مشددا على ضرورة “تفكيك الشبكات وسبل تمويلها”، لأن مهربي البشر على علاقة وثيقة بـ“مهربي الأسلحة والمخدرات والحركات الإرهابية الناشطة في كل منطقة الساحل”.

وتعكس كل هذه المؤشرات ما وصل إليه حال المهاجرين الأفارقة الراغبين في عبور المتوسط، فيما تكشف الأرقام التي تقدّمها يوميا منظمات الهجرة العالمية، عن فزع متنام لدى قادة الاتحاد الأوروبي من “غول الهجرة”.

واستنادا إلى أرقام موثقة، فإن 60 بالمئة من سكان أفريقيا لم تتجاوز أعمارهم الـ25 عاما يحاولون الهجرة إلى أوروبا كل سنة، منهم المئات من الآلاف من الشباب اليائسين بسبب البطالة والفقر وانسداد الآفاق في بلدانهم، على الرغم من تحقيق بعضها نسب نمو مرتفعة.

ويرى مسؤولو الاتحاد الأفريقي أن أوروبا تدرك مكمن الخطر الذي يتهددها من الهجرة، لكن تحرّكها على مستوى الإنفاق لحماية الحدود والسيطرة عليها يظل دون المأمول خصوصا من جانب البلدان التي يتدفق منها هذا الخطر وخصوصا إيطاليا.


ملفات خطيرة

يظل ملف الإرهاب كما الهجرة من أخطر الملفات الحارقة التي تؤرّق قادة البلدان في القارتين الأوروبية والأفريقية في الفترات الأخيرة، ورغم أن هذا الملف مثّل محور بحث متواصل خلال أربع قمم سابقة لكن دون التوصل إلى حلول ممكنة لمعالجة هذه الظاهرة.

ولكن بخلاف ما أخرجته بيانات القمة للعلن من مواقف إيجابية، فإن تحليل الخبراء يؤكد على أن قمة أبيدجان لن تأتي بجديد وستأخذ تقريبا نفس المنحى الذي أخذته قمم سابقة، حيث تبدي أوروبا في كل مرة استعدادها للمساعدة ورفع سقف مساعداتها، فيما تقر أفريقيا بأن الدعم الذي تقدمه بلدان القارة الأوروبية غير كاف وتطالب بحلول أكثر فاعلية.

ويعتمد هؤلاء في حججهم على الحلول المبتورة التي تقدمها أوروبا في كل مرة لإنقاذ موقفها من مسألة الهجرة والإرهاب المتواصل في أفريقيا، حيث أن الخروج باتفاق لإعادة توطين المهاجرين لا يعتبر حلا يلبّي طموحات الدول الأفريقية الباحثة عن تثبيت أجيال تذهب سدى بين البحر والذوبان في أوروبا دون أن تعود إلى أوطانها.

وعندما تقدّم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمقترح في أغسطس الماضي يقضي ببدء آلية اللجوء في أفريقيا في مناطق محددة تكون آمنة تماما مثل النيجر وتشاد وتتولى الإشراف عليها المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، قال الرئيس التشادي إدريس ديبي حينها “لقد اعتدنا الإعلانات الصادرة منذ سنوات. نريد أمورا ملموسة”، فيما جاء رد وزيرة الخارجية الأوروبية فديريكا موغيريني بأن “المشكلة تكمن في الفقر، إلا أنه من غير الضروري إقامة مشروع مارشال جديد”.

ولخّص هذان الخطابان للقياديين في أوروبا وأفريقيا حينها طبيعة العلاقة غير المتكافئة بين الجانبين، لكنها في المقابل بدت حتمية وضرورية، وفق خبراء ومحللين، لجهة ما يتهدد بلدان القارتين من ملفات حارقة يأتي على رأسها الأمن والهجرة. فأوروبا كما أفريقيا تسعى جاهدة إلى تطويق هذه الأزمة بكل الطرق والأساليب الممكنة.

ملف الهجرة كما الأمن خنق بلدان القارتين على أكثر من صعيد وطرح عليهما تحديات إيقاف النزيف المتواصل الذي يسبّبه هذا الكمّ الهائل من المهاجرين الذي لم يعد الاتحاد من جهته قادرا على احتوائه، ولا أفريقيا من جهتها استطاعت توفير حلول تنموية قادرة على تثبيت المهاجرين ببلدانهم الأصلية.

وبدت أوروبا هذه المرة بناء على ما صرّح به زعماؤها مصممة على الذهاب إلى الخطر أينما هو وتريد معالجة المشكلة في المنبت. صحيح أنها تحارب نوعا آخر، وهو الإرهاب المنفرد الذي تقوم به جماعات متشددة من حين لآخر عبر عمليات متنوعة في أسلوبها وتكتيكاتها، لكن تركيزها منصب أيضا على مناطق أخرى مثل مالي والنيجر وتشاد التي يفوق فيها خطر المتسللين كل التصوّرات.

أفريقيا من جانبها ترغب بمعالجة أكثر واقعية لأزمتها المتواصلة بفقدان أكبر نسبة من شبابها كل عام وكل شهر وحتى كل يوم. أرقام مفزعة وتقارير مرعبة لمعدل الغرقى والذين تلفظهم سواحل المتوسط يوميا من الشباب الأفريقي اليائسين.

جدلية منطقية تفترض مسبقا الكشف عن طبيعة هذه العلاقة التي تربط أوروبا بأفريقيا رغم تاريخها الاستعماري الطويل. هذه العلاقة بدت عمودية في طرحها للقضايا الأكثر أهمية بينهما وتتهددهما باستمرار، عوض أن تكون أفقية مبنية على مرتكزات حقيقية للمعالجة وأساليب واضحة في العلاج.


تجاوز الخلافات الأفريقية

استنادا إلى ما يقر به باحثون، فإن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي تمثل نموذجا للعلاقات غير المتكافئة. فمن خلال المقارنة بين هاتين الكتلتين يتضح أن القارة الأفريقية تفوق القارة الأوروبية جغرافيّا وديموغرافيّا، لكن حين ينظر إلى الجانب الاقتصادي يبدو الاختلاف جليّا تماما.

فالناتج القومي الإجمالي الأوروبي يزيد تقريبا بـ17 مرة عمّا هو عند نظيره الأفريقي. وهذا بالرغم من أن مساحة أفريقيا تبلغ عشرة أضعاف مساحة الاتحاد الأوروبي، مع الأخذ في الاعتبار ما تزخر به القارة الأفريقية من ثروات.

ويرى محللون أن طبيعة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والجنوب، بمفهومها الشامل، غير عادلة وغير متكافئة وتصبّ في صالح الاتحاد الأوروبي، مما يحول دون إحداث تطور وتنمية في القارة الأفريقية ويعرقل محاولات التكامل الأفقي.

لكن ما يجب أن تسعى إليه أفريقيا عموما هو ليس فقط كيفية الحصول على أكبر قدر من المكاسب والمنافع من هذه الشراكة، وإنما يجب أن تستهدف إيجاد كيفية تحقيق تقدّم ملموس في أحوالها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مما يساعدها على بلوغ مساواة حقيقية تمكن من بناء شراكة حقيقية.

ومن هذا المنطلق ربما كانت هناك حاجة ملحّة ومستعجلة لتجاوز الخلافات الداخلية الضيّقة بين الدول الأفريقية، إذ وحده هذا الأمر من شأنه أن يؤسس لعلاقات خارجية حقيقية تحفظ لأفريقيا مصالحها. وأعمق من هذا التحدي للعلاقات الاقتصادية غير المتكافئة تطرح مسائل أخرى أكثر أهمية، وهي التهديدات الإرهابية التي قوي منسوبها، إضافة إلى تحديات الهجرة التي فاقت أرقامها في السنوات القليلة الماضية كل التوقعات.