تمرّ الولايات المتحدة ولأول مرة في تاريخها الحديث على الأقل، بحالٍ لم يشهدها العالم. فهي الدولة الأعظم فيه والأقوى عسكرياً وتكنولوجياً والأكثر تقدماً في عالم البحوث العسكرية والمدنية. وهي الدولة التي تعرف أن هناك دولتين كبيرتين، واحدة كانت عظمى سابقاً وأخرى تسعى لأن تصبح عظمى أو ربما الأعظم هما روسيا والصين، تعملان بجدّ وفي كل المجالات من أجل إعادة الثنائية الى زعامة العالم أو ربما جعلها ثلاثية. وتعرف أيضاً أن ذلك ليس هدفاً مستحيلاً لأن التاريخ يدلّ على “تداول” الزعامة الدولية حتى بين الدول التي صارت أمبراطوريات وسلطنات وحكمت العالم لا عقوداً بل قروناً. لكنها تعرف أخيراً أن خطر نزعها عن عرشها إذا حصل لن يكون قبل عقود رغم التخبّط الذي تعيشه إدارتها الجديدة الحديثة السّن، الذي ساهم فيه رهان أوباما الخاطئ على إيران الذي سينعكس سلباً مستقبلاً على دورها وانتصاراتها في السنوات القليلة الماضية في معارك، ولكن ليس في الحرب المستمرة والمتنقلة في الشرق الأوسط والعالم. كما ساهم فيه عدم وضعه استراتيجيا لمواجهة “الربيع العربي” وحروبه والإرهاب الذي استفاد منه للهجوم على العالم كله. أما الحال “الاستثنائية” والسلبية طبعاً المشار إليها أعلاه فهي أن أميركا “الجبارة” هذه، قيادتها السياسية ضعيفة جداً وبكل المقاييس، سواء بمقارنتها مع نظيراتها في الدول الكبرى أو من دون مقارنة كهذه.
فالرئيس دونالد ترامب المتمتّع بسلطات واسعة جداً جرّاء رئاسية نظام بلاده والقائد للقوات المسلحة، ورغم مرور تسعة أشهر وبضعة أسابيع على دخوله البيت الأبيض، لا يزال من دون استراتيجيا واضحة، أو بالأحرى استراتيجيات لمواجهة التحديات التي تواجه أميركا والعالم في الشرق الأوسط وفي الشرق الأقصى وفي أوروبا وهي كثيرة. وقد يكون أخطرها الإرهاب الوحشي المتوسّع انتشاره الذي يحمل في هذه المرحلة من التاريخ صفة “الاسلامية”. فهو يعتمد التغريد على الـ”تويتر” وذلك ليس استراتيجيا، وعلى عفويته غير الحكيمة أو العاقلة. ولولا عمليات المتابعة اليومية له التي يقوم بها “الاستابليشمانت” داخل إدارته والكونغرس، لكان دور بلاده والرهان العالمي عليها انحدرا على نحو محسوس. ولعل أبرز مثل على الخوف منه داخل بلاده هو إقدام الكونغرس بجمهورييه وديموقراطييه على درس وضع قيود قانونية تحول دون اتخاذه قرارات مؤذية لبلاده، وربما مهلكة للبشرية كتلك التي تتعلق باستعماله “الزر النووي” لمواجهة طارئ ما. هذه المقدمة كان لا بد منها لأن “الموقف هذا النهار” سيتناول خلال يومين أو ثلاثة، موضوعات تتعلّق بالمنطقة وبعلاقة روسيا وأميركا الناشطتين فيها، وبالتطورات المرتقبة للوضع السوري وللدور الإيراني وما الى ذلك من أمور، وسينطلق من معطيات ومعلومات متابع أميركي مزمن وجدّي جداً لبلاده والمنطقة كما لمناطق أخرى في العالم.
هذا عن أميركا فماذا عن روسيا التي تمرّ أيضاً في حال صعبة؟ يجيب المتابع المشار إليه الى وجود فرق كبير بين رئيسيهما بوتين وترامب. فالأول لديه مؤهلات قيادية ويمتلك نظرة استراتيجية لبلاده ودورها ويبادر، ولا يذهب الى الآخر بعد كل تقدّم أو انتصار في معركة يحقّقه. بل ينطلق منه لمحاولة إنهاء تدخّل بلاده وخصوصاً إذا كان عسكرياً بالتفاوض. فهو يعرف محدودية الإمكانات العسكرية والاقتصادية لبلاده وأنه لا يستطيع الذهاب في تدخّله العسكري في سوريا الى أبعد مما هو عليه الآن أو توسيعه الى دول أخرى. كما أنه متدخل في أوروبا (أوكرانيا)، وعوقبت بلاده وشعبه على ذلك من أوروبا كلها وأميركا. وهذه مشكلة عليه أن يواجهها. الى ذلك يتميّز بوتين عن ترامب أن بلاده ليست ديموقراطية وأن المحاسبة المؤسساتية فيها غائبة عملياً. لكنه يعرف أن غياب محاسبة كهذه يفتح الباب أمام محاسبات من نوع آخر قد تكون فجائية ومؤذية جداً. ولذلك فإن مصلحته تقتضي العمل الجدي مع ترامب. ويبدو وفقاً للمعلومات المتوافرة أنهما قرّرا العمل معاً رغم العقبات الكثيرة الصعبة التي يواجهها كل منهما، وباشرا تنفيذ القرار. وقد انطلقا من إرادة منع علاقة دولتيهما من أن تزداد سوءاً بل تردّياً. وذلك قد يحصل بسبب أزمات الشرق الأوسط وأزمة كوريا الشمالية. فبوتين لا يستطيع الانسحاب من شبه جزيرة القرم والتخلي عن روس أوكرانيا الانفصاليين، وترامب لا يستطيع رفع العقوبات عن روسيا لأن الكونغرس سيعيد فرضها. كيف سيعملان معاً إذاً؟