لدى عودته الى بيروت من الاقامة الجبرية السعودية، عبر الممر الانساني الفرنسي ، لم يكن الرئيس سعد الحريري يميل الى التريث في إستقالته المعلنة من الرياض في الرابع من هذا الشهر وعرض العدول عنها بعد أسبوع. كان خياره الضمني هو سحبها من التداول، والمضي قدماً في الحكومة على النحو الذي كان سائداً طوال العام الماضي، بإعتبار أن الصفقة التي أعادته الى الحكومة في خريف العام 2016 ما زالت سارية وصالحة، ولا بديل منها.
قرار التريث كان في ظاهره إستجابة لرغبة الرئيسين ميشال عون ونبيه بري، لكنه كان في جوهره صدى لموقف سعودي أخفق في معركة الاقامة الجبرية، وفي حملة الفراغ الدستوري الذي كانت القيادة السعودية تنوي فرضه على لبنان، ولا تزال...بدليل ما قاله ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان لصحيفة "نيويورك تايمز" قبل أيام عن ضرورة سحب الغطاء السياسي الذي كان الحريري يوفره ل"حزب الله" في الحكومة.
الفراغ هو القرار السعودي المعلن. وهو ما يستعد المسؤولون اللبنانيون للتكيف معه، لفترة غير محددة ، والإلتفاف عليه من خلال التزام الحكومة بتصريف الاعمال والدخول في متاهة مشاورات سياسية جديدة تفضي الى جلسات حوار وطني تنتهي الى نص عبثي، شبيه ببيان بعبدا الشهير الذي لا يزال الرئيس السابق ميشال سليمان يدفع ثمن الدفاع عنه حتى الان..وهو موقف يمكن ان يواجهه الرئيس عون، الذي تصرف من اللحظة الاولى للأزمة وفق غريزته السياسية، ورأى أنه مستهدف مع الحريري، وإعتبر ان عهده أصبح في مهب الريح. وهو تقدير صحيح  الى حد بعيد. ويشي بأن الهدف السعودي التالي ربما يكون رئاسة الجمهورية تحديداً، في المرحلة الثالثة من هجوم المملكة، التي تلي الضغط الحالي على الاقتصاد والعملة اللبنانية.
الثابت ان ذلك الهجوم ما زال في مراحله الاولى. سحب الحريري من رئاسة الحكومة كان الخطوة الاسهل والاسرع  التي أعلنت الرياض من خلالها ان الداخل اللبناني لم يعد بمنأى عن الصراع مع إيران، لا سيما وأن قواه المسلحة شبه الشرعية، أي حزب الله، طرف مباشر في القتال على جبهات سوريا والعراق واليمن وغيرها. وعليه، فإن اللبنانيين جميعاً ملزمون  من الآن فصاعداً، بدفع ثمن هذا الإنتشار العسكري، مهما كان موقفهم منه، وأيا كانت خسائرهم السابقة نتيجته.
وكما كانت إقالة الحريري من الحكومة يسيرة، لن تجد القيادة السعودية المغامِرة، صعوبة في المضي قدماً نحو تنفيذ البنود التالية من خطة الهجوم على لبنان، والهادفة الى محاصرته، وإجباره على الالتزام بخيار سعودي حازم، مبني على درجة عالية من الوصاية على الحلفاء، ودرجة أعلى من المواجهة مع الخصوم..ما يخضع الجانبين لإختبارٍ قاسٍ لم يسبق للجانبين ان شهدوا مثله في تاريخ العلاقات اللبنانية السعودية.
البحث اللبناني في سبل درء مخاطر ذلك الهجوم بدأ بالفعل. وهو يشمل الخصوم الذين يترقبون الخطوة السعودية التالية بقلق ظاهر، والحلفاء الذين اصابتهم إقالة الحريري بإضطراب شديد، قوض تحالفهم وهز صفوفهم الداخلية. لكن ثمة إجماعاً لبنانياً على ان الحد من الخسائر والاضرار سيكون عملاً شاقاً ، بل مستحيلاً..لا سيما وأنه ليس هناك نافذة للتفاوض مع الرياض حول شروط وقف هجومها، ولا للتوصل الى فهم دقيق ل"وثيقة  الاستسلام" التي تتوقعها القيادة السعودية من لبنان.
الضرب في الرمل هو عنوان المجالس السياسية المغلقة في بيروت: هل تتوقع الرياض فعلاً أن ينسحب حزب الله من سوريا او العراق او اليمن وهو على عتبة إستثمار مكاسبه العسكرية الاخيرة على تلك الجبهات؟ هل تترقب القيادة السعودية حقاً أن يعمد الروس الى إخراج إيران ومليشياتها من سوريا، برغم أن تلك المليشيات (المقدرة بثمانين ألف مقاتل )هي -وباعتراف الكرملين نفسه- ضمانة بقاء نظام بشار الاسد على الارض السورية، وبالتالي ضمانة الدور الروسي في سوريا؟
لعله مجرد هجوم سعودي مضاد، إستخدمت فيه حلقته الاضعف، لبنان. أو ربما هو حصار جديد، بلا أي إستراتيجية ولا خطة خروج، تماماً كما هو حصار قطر الذي حرر الاشقاء القطريين من الكثير من الحروب والازمات.