لا تندرج تصريحات الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله الأخيرة في إطار التحليل السياسي، بقدر استغراقها في ما يمكن تسميته الإنكار الذي يضمر جهل المتلقي، وبالتالي سهولة استغفاله واستدراجه.
ففي خطابه الأخير، يمارس نصرالله سياسة غسل أدمغة واضحة لجهة تطهير صفحته، ووضع كل «مجهوده العسكري» في خدمة قضايا المقاومة والممانعة، ومجابهة الإرهاب في العراق وسورية، ومحاربة إسرائيل ودعم الثوار في فلسطين، حيث يتباهى بالأمر الأخير، على نحو لا يتوخّى المديح، بمقدار ما يستــثمر الحدث في مناكفة الكيان الصهيوني، كأنه يقول لجنرالات تل أبيب: هيّا إلى الحرب.
ليس صحيحاً أنّ «حزب الله» لا يتدخل في العراق، وهو ما حاول إنكاره نصرالله في خطابه الأخير، لكنه وقع في تناقض صارخ، حين نفى وجود عساكره في العراق، في الوقت الذي اعترف فيه: «أرسلنا أعداداً كبيرة من قادتنا وكوادرنا الجهادية... بالتنسيق مع الإخوة في الحكومة العراقية آنذاك...»، مضيفاً: «نعتبر أنّ المهمة أنجزت، ولكن بانتظار إعلان النصر النهائي العراقي»، وبالتالي: «في ضوء هذا التقدم، سنقوم بمراجعة للموقف، وإذا وجدنا أنّ الأمر قد أنجز ولم تكن هناك حاجة لوجود هؤلاء الإخوة هناك سيعودون للالتحاق في أي ساحة أخرى تتطلب منهم ذلك». فهل يحقّ لأحد، بعد هذا الاعتراف البيّن، أن يردّد مزاعم الأمين العام بأنّ الحزب لم يتدخل في العراق، وأنّ تدخل الحزب لم يكن من أجل محاربة «داعش» وإنما من أجل ترجيح كفة مذهبية على أخرى، وما الساحة التالية التي سيذهب إليها «الإخوة» ومن يحدّد «ما يتطلب منهم»؟!
أما بخصوص إنكار نصرالله تدخل حزبه المدعوم من إيران في اليمن، فقد نشرت مجلة «فورين أفيرز» الأميركية، تقريراً مفصلاً، العام الماضي، عن علاقة «حزب الله» بالتمرّد الحوثيّ في اليمن، بما لا يقتصر فقط على التدريب، وإنما «المساعدة المباشرة ضمن سياسة إيران التدخلية في دول المنطقة».
واشتمل التقرير على توصيات بـ «مد الحوثيين بصواريخ مضادة للطائرات وأخرى للدبابات وأسلحة أخرى مختلفة». ونقلت المجلة عن الباحث في معهد واشنطن ماثيو ليفيت قوله أنّ «قادة حزب الله مثل أبو علي الطبطبائي الذي قاد القوات في سورية، توجه لمساعدة قوات الحوثي» في اليمن.
الأمين العام لـ «حزب الله» اعترف بالتدخل في سورية، وأهدى «النصر المؤزّر» على الشعب السوري، لقائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، وتناسى أنّ ذلك النصر الموهوم، قد أسفر، وفق تقرير صادر عن البنك الدولي، عن مقتل أكثر من 400 ألف شخص، واضطرار أكثر من نصف السكان إلى مغادرة منازلهم في أكبر أزمة للاجئين منذ الحرب العالمية الثانية. وكان أجدى بالسيد حسن نصرالله أن يواصل اعترافاته لتشمل تدخلات حزبه الانقلابية في اليمن والبحرين والكويت، وكيده المتواصل للسعودية والإمارات، إذا كان يريد حقاً أن يتطهّر، ويجنّب لبنان والمنطقة الكوارث والحروب.
لن يتمكن الحزب من الوفاء بمبدأ «النأي بالنفس» لأنه، استطراداً، حزب أيديولوجي مذهبي يمتثل لإرادة الولي الفقيه، ويخدم تطلعاته نظام الملالي في طهران، وهي التطلعات التي قادت الحزب للمشاركة في القتال في العراق وسورية واليمن وصبّ الوقود على نار التوترات في البحرين والكويت والسعودية والكيد للإمارات، وهي «التزامات» لا يستطيع الحزب أن ينأى بنفسه منها.
ولعل هذا الاستعصاء في خطاب «حزب الله»، واستفحال نزعة الممانعة التي تقاوم التغيير في سياسته، تجعل لبنان أمام موقف حرج وانسداد متوقع في آفاق التسوية الداخلية، ما يعني أنّ جمهور هذا الحزب والمتعاطفين معه معنيّون بدرجة أساسية في كبح جماح النزعة التوسعية لقيادة الحزب، ورغبتها في لعب دور محوري يتعدى كون الحزب مكوناً سياسياً من مكونات الحياة اللبنانية؛ فأوهام «حزب الله» بقدرته على إعادة ترسيم الحدود السياسية خارج حدوده، وشحن النزعات الانشقاقية في اليمن ودول الخليج، تصب في مستنقع أوهام نظام الولي الفقيه الذي نصح أحد قادته قبل سنوات قليلة ما سمّاها «دول الخليج الفارسي»، بألا تعرقل «طموحات إيران العظمى، وإلا فإنّ العرب سينحسرون إلى مكة كما كانوا قبل 15 قرناً من الزمان»!

 

موسى برهومة