بين بيان الاستقالة الشهير الذي أعلنه الرئيس سعد الحريري في الرابع من الشهر الجاري في الرياض، وبيان التريث نظرياً والعودة فعلياً عن هذه الاستقالة في يوم عيد الاستقلال في بيروت، ثمّة أشياء كثيرة ظّلت غامضة وأخرى ظهرت من دون أن توفر عناصر المشهد الكامل بين الحدثين المفاجئين للبنانيين أي الاستقالة والعودة عنها، بل إن هذين الحدثين فاجآ مسؤولي تيار المستقبل نفسه، كما عبر القيادي في هذا التيار ، بطريقة عفوية عندما قال من على شاشة محطة العربية، اننا “لم نعلم لماذا استقال ولماذا عاد عنها”.
المعلومات حول ما جرى مع الرئيس الحريري طيلة غيابه عن لبنان تبدو عملة نادرة، يكشف ندرتها تعدد الروايات وتعارضها، فثمة من يؤكد في تيار المستقبل إلى أنّ الرئيس الحريري أُجبر على الاستقالة، وهو خاض مواجهة شرسة مع المسؤولين السعوديين لجهة رفضه الانصياع لمسار تصعيد المواجهة الداخلية مع حزب الله، ويزيد هؤلاء أنّ علاقته مع المملكة لم تعد كما كانت قبل الاستقالة وأنّ صدعاً أصابها، ليستشهدوا على ذلك، بإشادة الرئيس الحريري في خطاب التريث بالرئيسين ميشال عون ونبيه بري، ومن دون أن ترد كلمة السعودية على لسانه لا في هذا الخطاب ولا في الخطاب الذي القاه أمام مناصرية الذين تجمعوا في بيت الوسط ظهر اليوم. لا بل بزعم أصحاب هذه القراءة في تيار المستقبل، أنّ الرئيس الحريري وجه لوماً غير مباشر في خطابه لمن يعنيهم داخل المملكة.
هذه الرواية يقابلها رواية أخرى تتمهل في تقبل مقولة أنّ التريث تعني العودة عن الاستقالة، بل تؤكد أنّ الرئيس الحريري ما كان ليقوم بهذه الخطوة، من دون أن تكون العودة عن الاستقالة تمت بعلم المملكة، لأنّ هذه العودة كما يضيف أصحاب الرواية الثانية في تيار المستقبل، كانت حصيلة اتصالات شارك فيها الرئيس الحريري وأدارتها الرئاسة الفرنسية بين الرياض وواشنطن وطهران والقاهرة، اتصالات لم تتضح تفاصيلها بالكامل بعد، ولكن أفضت إلى ما يمكن وصفه، بإعادة ترتيب جدول الأعمال، انطلاقاً من ثابتة حماية الاستقرار في لبنان وعدم جره إلى مهالك الإقليم، في مقابل تقديم تعهدات من قبل حزب الله ورئيس الجمهورية تدعم النأي بالنفس في لبنان عن صراعات الإقليم، هذا ما ينتظره الرئيس الحريري من الرئيس عون، الذي يدرك أنّ عهده على المحك، وبالتالي هو مطالب انطلاقاً من الوقائع التي تضغط على لبنان عربياً ودولياً، بأن ينتزع من حزب الله ما يعزز الثقة بما قاله في خطابه عشية الاستقلال عن التزام لبنان سياسة النأي بالنفس، وبانتظار ما ستؤول إليه اتصالات عون بقيادة حزب الله، سيقرر الرئيس الحريري تقديم استقالته أو العودة عنها، وكلمة السر التي تتردد دائماً على لسان الحريري من السعودية الى فرنسا ومصر، هي “النأي بالنفس”.
هذان التفسيران لموقف الرئيس الحريري أو مواقفه، لا يشبعان نهم الباحثين عن تفاصيل ما جرى، بل يزيدان الأمر غموضاً، لا سيما عند محاولة تفسير المؤشرات التي برزت مع عودة الحريري إلى لبنان، الإشادة برئيس الجمهورية الذي اتهم السعودية بأنّها تحتجز الحريري، والود الذي برز بين الحريري والوزير جبران باسيل الذي قاد مواجهة دبلوماسية مزعجة للسعودية بعنوان الإفراج عن الحريري، وبالتالي هل أنّ الرئيس الحريري قرر الابتعاد عن الرياض أو أنّ الرياض قررت الابتعاد عنه، أو هل أنّ رئيس الحكومة يمكن أن يبقى حائزاً على تأييد داخل طائفته في ظلّ علاقة غير ودية مع الرياض؟ هذه الأسئلة يحرص الرئيس الحريري على ما ينقل مقربون على عدم البوح بهااو الاجابةعليها، بما يوحي أنّ ثمّة غموضاً مقصوداً يريده الحريري في هذا الشأن، علماً أنّ العارفين ببواطن الأمور في الطائفة السنية، يجزمون بأنّ هذه الطائفة مرتبطة بنظام مصالح وعلاقات لا تتيح مجرد التفكير في مغامرة الخروج من المظلّة السعودية، طالما أنّ المظلة البديلة لن تكون إلاّ مظلة ايرانية، إلاّ إذا كانت السعودية هي من ترغب في الانسحاب من لبنان.
وفي محاولة قراءة ما جرى من باب التحليل، فإنّ ما حاولته الرياض عبر استقالة الرئيس الحريري، قابله رد فعل أميركي وفرنسي وأوروبي ومصري، لم يكن ضد الهدف الذي تريده الرياض أي معالجة مسألة سلاح حزب الله الاقليمي والداخلي، بل رد الفعل كان على الأسلوب الذي يجرّ لبنان إلى توتر لا يريده الأوروبيون ولا الأميركيون، لذا يمكن ملاحظة أنّ سلاح حزب الله تمّ سحبه من كونه مشكلة لبنانية يجب على اللبنانيين حلّها كما أوحت الخطوة السعودية، إلى مشكلة يجب بتّها في المجال الإقليمي والدولي. بيان الجامعة العربية يصب في هذا التوجه من دون أن يعفي لبنان من المسؤولية، لكن حرارة التسوية السورية المرتفعة في سوتشي تبقى هي الأهم وهي التي ربما جعلت من سياسة التريث هي الحاكمة اليوم في الشأن اللبناني، بانتظار ما ستؤول إليه الإدارة الروسية في الملف السوري، تريث سحب نفسه على استقالة الحريري وعلى سائر المشهد اللبناني، او المشهدالكاريكاتوري من استقالة الحريري والعودة عنها، إلى الاستقلال الذي احتفى اللبنانيون به لكن من دون أن يتذوقوا طعمه منذ عقود.