أهم بندٍ من بنود التسوية كانت سياسة النأي بالنفس عن مشاكل المنطقة ليتبيّن اليوم صعوبة تحقيقها نظراً لانغماس حزب الله الواضح في سوريا
 

أولاً: التسوية الأولى ... بشارة الخوري ورياض الصلح

دأب لبنان منذ نشأته على صوغ تسويات أو "تلفيقات" من وراء "ظهر" الدستور ،لتمرير صيغ طوائفية وتواضعات ظرفية وتفاهمات شفوية بين رئيس الجمهورية من جهة ورئيس الحكومة من جهة ثانية، وكانت باكورة تلك التسويات صيغة "الميثاق الوطني" التي أبرمها الرئيس الراحل بشارة الخوري مع رئيس الوزراء الراحل رياض الصلح عام ١٩٤٣ أي بعد نيل لبنان استقلاله وتأليف أول حكومة استقلالية، ومنذ ذلك التاريخ والبلد يخضع لوثيقتين تأسيسيّتين: الأولى هي الدستور، والثانية هي تفاهم شفوي بين رئيسي الجمهورية والحكومة، ومن الطبيعي أن تبدأ النزاعات بين الدستور والعُرف (الميثاق الوطني)، وتبدأ لعبة التحايل على الدستور وتجاوزه، لتنتهي اللعبة بسيادة العرف على الدستور، ممّا يُمهّد إلى انفجار التسوية والدخول في دوامة الحروب الأهلية، بدءاً من ثورة ١٩٥٨ والتي تحاور فيها اللبنانيون بالسلاح، ولم ينقذهم منها إلاّ التجربة الإصلاحية الشهابية، والتي سقطت بدورها تحت سنابك الزعامات التاريخية التي باتت مصالحها مُهدّدة، أما الحرب الأهلية الثانية عام ١٩٧٥ فقد انتهت بتسوية اتفاق الطائف، والذي رعاه السوريون وفق مصالحهم وأهوائهم، حتى انسحابهم في العام ٢٠٠٥، ليقف اللبنانيون وجهاً لوجه أمام مُعضلة إنجاز تسويات فاعلة وصالحة بغياب الوصاية، وللأسف بغياب زعامات وطنية صادقة ومخلصة تنأى بالبلاد عن ضغوطات الأزمات الملتهبة في المنطقة، من احتلال العراق حتى الدخول الإيراني الجامح في المنطقة العربية، وشهد لبنان فراغاً رئاسياً لأول مرة في تاريخه عام ٢٠٠٨، لينتهي بتسوية "الدوحة" وسرعان ما تمّ الانقلاب عليها، ليدخل لبنان من جديد في أزمة فراغ رئاسي جديد عام ٢٠١٤، لم تنته فصولها إلاّ بالتسوية العونية - الحريرية.

ثانياً: التسوية الأخيرة ... عون - الحريري

جاء الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية بعد مخاضٍ عسير، بعد "تسوية" لم يتمكن أحد من الإطلاع على بنودها باعتبارها غير مكتوبة، ولا تتعدّى كونها تفاهمات شفوية، ليتّضح اليوم، أي بعد استقالة الحريري المثيرة للجدل، أنّ أهم بندٍ من بنودها كانت سياسة "النأي بالنفس" عن مشاكل المنطقة، وليتبيّن اليوم صعوبة تحقيق هذا البند، لا بل استحالة تطبيقه، نظراً لانغماس حزب الله الواضح في سوريا وفي أكثر من بلد عربي، وهاهي التسوية تنفجر تحت عامل الضغط السعودي، وبات الوضع يحتاج إلى تسوية جديدة، بحاجة إلى زعامات وطنية (نادرة الوجود)، وذلك لإجراء عمليات جريئة وحسّاسة، أين منها العمليات الجراحية الدقيقة التي يقوم بها أمهر الأطباء، نأمل أن يتُمّ ذلك في الوقت والمكان المناسبين، لئلّا يضطر اللبنانيون للحوار مجدّداً بالسلاح الذي لا يُخلّف سوى المآسي والضحايا والدمار والخراب.