لا يريد حزب الله حربا إسرائيلية تحظى بتغطية دولية تستهدفه في لبنان على منوال ما حصل عام 2006. وعليه فإنه، وعلى الرغم من خطاب التهويل الذي يكرره ضد إسرائيل، لن يقوم بارتكاب أي خطأ أو استفزاز يبرر لإسرائيل تلك الحرب
 

سواء انتقل سعد الحريري إلى باريس أو عاد إلى بيروت، فلا شيء يوحي بأن حزب الله جاهز لولوج التسوية اللبنانية بقواعدها اللبنانية.

لا يملك الحزب القرار في هذا الشأن، فولاؤه الكامل، وفق ما يردد أمينه العام السيّد حسن نصرالله، هو للوليّ الفقيه في إيران. لذلك فإن أي تبدل في سلوك الحزب في لبنان يجب أن يخضع في الأصل لتبدل في سلوك إيران في لبنان.

وعلى هذا، ووفق ما هو معروف من معطيات، لا يبدو أن هناك ما يدعو طهران لتغيير سلوكها في أي منطقة من مناطق النفوذ لديها في العالم العربي، بما في ذلك لبنان. ولا يبدو في الأفق وجود أي ترتيبات إقليمية دولية تُحضّر للوصول إلى نقطة توازن جديدة مع إيران.

ورغم عدم وضوح مفاعيل الاستراتيجية التي أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مواجهة إيران، إلا أن ما يتسرّب عن كبرى عواصم القرار يوحي، منذ اكتشاف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن “الاتفاق النووي لم يعد كافيا”، بأن مواقف دول أساسية في العالم ستقترب من موقف واشنطن لتكثيف الضغوط على طهران بما ينظم تحجيما للإنفلاش الإيراني في الشرق الأوسط، والذي بات معرقلا لتسويات مطلوبة في اليمن وسوريا والعراق، وأن مسألة مواجهة البرنامج الصاروخي باتت على طاولة المجتمع الدولي.

ولئن قوبل الإعلان الروسي الأميركي حول سوريا ببرودة وربما امتعاض من قبل إيران (وتركيا)، فذلك لأن الدول الإقليمية، جميعها، قد تدفع ثمن أي توافق مفترض بين الكبار، وهو أمر قد يدفع بتلك الدول لمزيد من التقارب والتنسيق، لجعل توافق الكبار صعبا أو مشروطا بمراعاة مصالح دول المنطقة. بيد أن قدرة هذه الدول، لا سيما إيران، محدودة وهي الملتصقة، على مضض، بالتحولات الكبرى التي تقررها موسكو أو واشنطن، فما بالك بالاثنين معاً.

والحال أن اتفاق روسيا والولايات المتحدة على مبادئ التسوية في سوريا نبه طهران جيدا إلى الخلفية الحقيقية التي تنطلق الرياض منها لتقديم وجبة سعودية مستحدثة لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة. وعلى هذا فإن إيران باتت تدرك أن المواقف التي يعبر عنها وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان، خصوصا تلك المتعلقة بحزب الله، تنهل قوتها من ورشة دولية كبرى تظهر علاماتها شيئا فشيئا إلى العلن.

ولا شك أن أي مراقب قد لاحظ جيدا المقاربة الهادئة التي انتهجها حزب الله للتعامل مع استحقاق استقالة رئيس الحكومة اللبنانية. احتاج الحزب إلى 24 ساعة حتى تصله من طهران المعطيات التي قرأتها إيران في هذا التفصيل الدراماتيكي المفاجئ والمنقلب على التقاطع السعودي الإيراني في لبنان، والذي لولاه لما تمت التسوية ولما شهد البلد ولادة عهد برئاسة العماد ميشال عون.

ولا شك أيضا أن أداء أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله قد فاجأ المناصرين قبل الخصوم بعد هذه الساعات الـ24 التي تلت الاستقالة، من حيث غياب لغة التصعيد ولهجة الهجوم ضد المملكة العربية السعودية، وهو الذي لم يتوان عن انتقادها وتهديدها في مناسبات أقل دراماتيكية في السابق.

وإذا كان من تفسير منطقي لسر التهدئة والهدوء اللذين قارب بهما نصرالله العاصفة، فذلك يكمن في الإيحاء للحريري وللسعودية بإمكانية التفاهم والبحث عن مناطق توافق وفق حقيقة أن الحزب في لبنان بالكامل هو جزء من أجندة إيران بالكامل.

على أن المواقف التي أعلنها الرئيس عون ووزير خارجيته جبران باسيل، من الداخل ومن الخارج، حول “احتجاز” مفترض تفرضه السعودية على الحريري تنمّ عن وظيفة أوكلتها “الضاحية” لـ“بعبدا” لإبعاد الكأس المرّة التي كشفتها أزمة الاستقالة.

لا يريد الحزب حربا إسرائيلية تحظى بتغطية دولية تستهدفه في لبنان على منوال ما حصل عام 2006. وعليه فإنه، وعلى الرغم من خطاب التهويل الذي يكرره ضد إسرائيل، لن يقوم بارتكاب أي خطأ أو استفزاز يبرر لإسرائيل تلك الحرب، ولن يكرر خطيئة “لو كنت أعلم” التي أباحت صبّ إسرائيل حممها على لبنان بعد خطف الحزب لجنود إسرائيليين قرب الحدود الجنوبية للبلد. ولا ريب في أن استقالة الحريري، وهو رئيس حكومة لبنان الشرعية، بسبب سلوك حزب الله، ستفرش سقفا دوليا صلبا فوق أي مواجهة بالنار ضد هذا الحزب.

والواضح أيضا أن المواقف السعودية المتصاعدة وصولا إلى استقالة الحريري لا تهدف إلى إعطاء أي مبرر لقيام تلك الحرب في لبنان، ناهيك عن أن الأجندة الإسرائيلية تخضع لحسابات إسرائيلية ترتبط بواشنطن وعواصم غربية كبرى، وليست متأثرة بأي موقف سعودي أو عربي ضد الحزب.

فالسعودية تدرك أن حروب الشرق الأوسط كلها غير مضمونة النتائج، وأن حساباتها، في لبنان بالذات، لا تصوّبها بالضرورة حروب جديدة في هذا البلد. فإذا ما كانت طهران أرسلت من خلال “هدوء” نصرالله إشارة استدعاء لتسوية، فإن الرياض من خلال المقابلة التلفزيونية للحريري أرسلت بالمقابل إشاراتها المتضمنة لشروط تلك التسوية وفق مستويات دقيقة عقلانية لا تشبه تلك التي ارتفعت في خطاب استقالة الحريري في 4 نوفمبر الجاري.

والظاهر أن ضغوطا دولية واسعة واكبت ورشة إنتاج أي تعديل مطلوب على تسوية الحريري-عون. عزفت عواصم القرار الكبرى لحنا موحدا بالدعوة إلى عودة الحريري إلى لبنان تتوّج بخاتمة قضت بدعوة وجهها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الحريري لزيارة باريس. في ذلك بدا أن باريس شريكة مع الرياض في رعاية موقف الحريري ومنح ذلك الموقف سقفا فرنسيا- أوروبيا- دوليا يضاف إلى ذلك السعودي.

وقد تفرج الأيام المقبلة عن أن استغراق حزب الله وحلفائه في نقاش شكل استقالة الحريري لا مضمونها عجّل من شكل المواجهة الدولية ضد هذا الحزب التي لن يخفف من وقعها إلا التواري خلف تسوية اقترحها الحريري في مقابلته التلفزيونية الأحد الماضي.

وإذا ما تسرّع الرئيس اللبناني في الصدام مع الرياض فسيكون مطلوبا منه تعبيد الطرق للاهتداء إلى المخارج المواتية. تمكن الرئيس عون من استيعاب صدمة الاستقالة وحوّلها من مأزق للعهد، إلى مأزق لبناني شامل يستدعي التشاور الداخلي كما يستدعي لقاء السفراء الأجانب. عكس تمسّك عون بشراكته مع الحريري إدراكاً لطبيعة الحدث ومعانيه الدولية، من حيث أنه تطوّر كبير ناتج عن قرار كبير وليس جلبة محلية روتينية.

أدرك رئيس المجلس اللبناني نبيه بري ذلك، فكان من موقعه على رأس سلطة التشريع، أن اعتبر أن تلك الاستقالة لم تحصل ولا مفاعيل دستورية لها. غير أن اللافت أن المستشار الإعلامي لرئيس الجمهورية جان عزيز خرج يعلن أن هناك ضربة قادمة ضد لبنان، وذهب للقول إن الأمر لا يشبه ظروف حرب 2006، بل إن “ما يحصل في لبنان اليوم هو ما حصل عشية عام 1982، وأن هناك قرارا كبيرا اتخذ على المستوى الدولي الأعلى”.

أثار الأمر ضجيجا في لبنان ليس لكونه واحدا من التحليلات السياسية التي تحتشد بها الساحة اللبنانية، بل لأن في تقييم الرجل بصفته الرسمية إعلانا من رئيس الجمهورية نفسه بأن الكارثة قادمة، وبالتالي إعلانا من رئيس الجمهورية نفسه، بأن على حليفه حزب الله أن يفهم ذلك ويفهم أن المعلومات الدولية التي تحدث عنها عزيز طرقت باب بعبدا بقوة واستدعت من وزير الخارجية جبران باسيل القيام على عجل بجولته خارج البلاد.

قد يصعب التنبؤ بشكل التسوية العتيدة، بيد أن حديث الحريري نفسه عن عودة قريبة إلى لبنان يوحي بأن العمل جار، ولو بصعوبة على إنتاجها. أخرجت السعودية خلال أيام مخالب غليظة لوّحت بها لردّ ما تعتبره اعتداء يأتيها من لبنان.

وربما أدرك اللبنانيون لأول مرة مستويات الخشونة التي يمكن أن تلجأ إليها الرياض، وهو أمر أقلق اللبنانيين في السعودية والخليج، كما أولي الأعمال والاقتصاد في لبنان، كما النظام السياسي اللبناني برمته.

بالمقابل أظهرت السعودية خلال ساعات استقبالها لأول بطريرك لبناني يزور المملكة قدرة الرياض على أن تكون إيجابية ودودة كريمة راعية للسلم في لبنان وصديقة لكل اللبنانيين مسلمين ومسيحيين.

وقد لا تبدو تلك التسوية مستحيلة. أشار الحريري في المقابلة إلى الجانب اليمني من الإشكالية، وأشار نصرالله إلى قرب انتهاء الحرب السورية، فيما رسم البيان الروسي الأميركي حول سوريا خارطة طريق تؤسس لتسوية سورية لن يكون انسحابها على اليمن بعيدا.

وإذا ما صعّبت تصريحات عون في الداخل وباسيل في الخارج من إمكانية الخروج بتسوية، فذلك قد لا يتجاوز “عدة الشغل” المعتمدة عشية اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة ولتخفيف الوهج الذي أحدثته لدى “الناخبين” المسيحيين زيارة البطريرك بشارة بطرس الراعي إلى الرياض.

وعلى أي حال فإذا ما أسست عودة الحريري لتسوية ما، فإنه سيكون صعبا ملاحظة عناوين تلك التسوية بنسختها الجديدة، ذلك أن خطابا تصعيديا كلاميا للحزب قد ينفخ دخانا كثيرا يغطي أي تنازلات تمسّ صورة الحزب الإلهي الذي لا يقهر.

وإذا ما ركّز الحزب وطهران مناوراتهما الدفاعية لمواجهة الاستقالة ضد الرياض، فإن انتقال صاحب الاستقالة إلى باريس قد يدفع نصرالله من جديد إلى ترداد مقولته الشهيرة “لو كنت أعلم”.