لا تكاد فرنسا تفوّت مناسبة لتثبِت للعالَمين العربي والدولي أنها "الأم الحنون" للبنان، وأنها تجد في هذا البلد الصغير المضرّج بالأزمات، ولداً أنجبته لها العلاقات التاريخية. فنراها كلما ضيّقت الدول اللاعبة في المحيط الإقليمي الخناق على طفلها الشرقيّ، تستشرس في الدفاع عنه، وتتأهب لحمايته.

ولعل أبرز المواقف الفرنسية وأحدثها ما فعلته وتفعله الدولة الفرنسية رئيساً، وزيراً، وسفيراً، في الأزمة التي أرخت ظلالها على لبنان عقب استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري المفاجئة من العاصمة السعودية الرياض. فكثفت فرنسا خلال الأيام الأخيرة مبادراتها لضمان عودة الحريري إلى لبنان، وانهالت على السعودية البيانات الرسمية الفرنسية التي تؤكد على ضرورة استقرار لبنان وأمنه وسيادته ووحدة أراضيه.

ونذكر من هذه المواقف، على سبيل المثال لا الحصر، الزيارة الخاطفة التي قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون في التاسع من الشهر الجاري، للقاء وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان في الرياض، والاتصالات المتكررة التي أجراها الرئيس الفرنسي بالسعودية ولبنان وبالحريري نفسه. وتستمر المساعي الفرنسية لاحتواء التوتر في لبنان، وتوجّه وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان يوم أمس إلى الرياض، لبحث الوضع مع ولي العهد.

ويلاحظ المتابع لسير الأحداث منذ استقالة الحريري حتى اليوم، كيف تعاظم الموقف الفرنسي الهادف لاحتواء الأزمة والمُطالب بعودة الحريري، والشعور لوهلة أن هناك تبادل أدوار بين الرئيسين الفرنسي واللبناني. فلم يكن الأول أقل غيرةً على الحريري من الثاني، بل كان في بادئ الأمر مصعداً أكثر منه، إلى أن لاقاه عون أخيراً في مواقف تصعيدية بارزة يوم أمس، إذ قال أمام وفد وسائل الإعلام إن "الرئيس الحريري محتجز وموقوف في السعودية"، وأعتبر ذلك "عملاً عدائياً ضد لبنان".
فعلى ماذا ارتكزت فرنسا في مواقفها تلك، وضمن أي سياق يمكن قراءة هذا التعاطف المُلفت مع لبنان؟

يرى عضو كتلة التغيير والإصلاح النائب سيمون أبي رميا أن "مرتكزات أساسية متعددة جعلت فرنسا تهتم بهذا الملف". ويؤكد في حديثه لـ"ليبانون ديبايت" على أنه "لا شك في أن العلاقات التاريخية بين لبنان وفرنسا أعطت فرنسا هذه الميزة التي تجعل منها دائماً مهتمة أكثر من دول أخرى بشؤوننا اللبنانية، بملفاتنا، سيادتنا واستقلالنا. يضاف لذلك العلاقة الوثيقة بين الرئيسين عون وماكرون بعد الزيارة التي قام بها عون لفرنسا، إضافة إلى إرادة وتصميم الفرنسيين على أن يكون لبنان من أولوياتهم في المنطقة. ولا ننسى أن هناك علاقة عميقة بين آل الحريري وفرنسا، وهي العلاقة التي بناها الرئيس الشهيد رفيق الحريري مع السلطة الفرنسية ولا زالت مستمرة".

ويفسر أبي رميا الموقف الفرنسي قائلاً "تصاعد الشعور الفرنسي أن هناك انتهاك لكرامة لبنان وسيادته من خلال عدم السماح للرئيس الحريري حتى اللحظة بالعودة إلى لبنان. وانطلاقاً من المرتكزات السابقة الذكر، شعرت فرنسا أنها معنية. وهي تمتلك قوة التأثير، أولاً بحكم موقعها على صعيد المجتمع الدولي، وثانيا بحكم العلاقات بينها وبين السعودية ما تترجَم دوراً فاعلاً لها في هذا الإطار".

ولكن هل الموقف الفرنسي نابع من مجرد غيرة وحب للبنان، أم أن لدى فرنسا معطيات معينة؟

يجيب أبي رميا: "هناك شعور دولي يتعاظم، وبالتحديد فرنسي أن الحريري ليس حرّاً بالحركة والتعبير عن رأيه، ولا ننسى أن السفير الفرنسي في الرياض فرانسوا غويات اجتمع بالحريري، ولا بدّ أنه نقل صورةً عن جو اللقاء كوّنت فكرة وقناعة لدى الفرنسيين أن ظروف إقامة الحرير في السعودية ملتبسة ومريبة".

ومن منظورٍ آخر، يطلّ الكاتب والباحث السياسي الياس الزعبي على الموقف الفرنسي، ويرى في حديثٍ لـ"ليبانون ديبايت" أن "اهتمام فرنسا تقليدياً بشؤون لبنان أمر معروف، وبهذه المرحلة البالغة التعقيد بعد استقالة الحريري تضاعف الاهتمام الفرنسي بلبنان، على خلفية التاريخ المشترك في العلاقة المتينة والحميمة بين بيروت وباريس. ولكن فرنسا في هذه الازمة ربما تشرك الكثير من الاعتبارات بما يجعلها تأخذ منحى وكأنها تتبنّى مقولة احتجاز الحريري في الرياض".

ويلفت الزغبي إلى أن "هذا المنحى الفرنسي هو نتيجة مداخلات مغلوطة ونتيجة ضخ غبار كثيف حول أشكال ومظاهر الاستقالة، مكانها، زمانها وطريقة قيامها... وكل هذا هدفه تحويل الأنظار عن جوهر الاستقالة، أي وجود سلاح غير شرعي في لبنان. وموقف فرنسا يأخذ اعتبارات كثيرة تحت هذا الدخان الكثيف من ترويج وشائعات، وأي دولة أو أي مسؤول في دولة ربما يتأثر بمداخلات من هنا وهناك تجعله يرى الأمر على غير منحاه الصحيح، وربما أثرت المصالح على الموقف الفرنسي، إذ تتوجه فرنسا الآن لعقد صفقات نفط وشركات واستثمارات واسعة في طهران".

ويؤكد على أنه لا يمكن الحكم على الموقف الفرنسي والحركة الفرنسية أنها حركة ستستمر بهذا الاتجاه، فـ"عندما تتوضح المعطيات بشكل حاسم أمام الفرنسيين لا بد أن يعود الموقف الفرنسي للانتظام ولموقفه التاريخي بالحفاظ على استقلال لبنان وسيادته. فلا أحد يستطيع ان يتصور او يتخيل أن باريس تقبل بهيمنة ايرانية على الواقع اللبناني، لا سيما بعدما يتبين وضع الحريري بشكل واضح وعندما يعود إلى بيروت ويصرّ على استقالته ومضمونها".

إذاً، وبغض النظر عن الاعتبارات التي دفعت فرنسا إلى التصعيد لجانب لبنان في أزمته الحكومية، فلا يمكن أن ينفصل الدور الفرنسي عن أي حل مرتقب لهذه الأزمة، ولا ننسى أن فرنسا قد تكون وجهة الرئيس الحريري للإقامة الدائمة في حال قرّر الاعتكاف عن السياسة اللبنانية إذا ما وصل الحوار حول النقاط الخلافية اللبنانية إلى طريق مسدود، لا سيما وأن الرئيس الفرنسي وجه دعوةً رسمية للحريري وأسرته إلى فرنسا، وتوقعت أوساط الإيليزيه مجيء الحريري إلى فرنسا "خلال أيام".