الرئيس سعد الحريري على طريق العودة الى بيروت، هو يقول إنها ستكون بـ»هاليومين»، ثمّة مَن ارتاح قلبُه واطمأن لمجرّد أنّ الحريري سيكون في بيروت، ولكنّ ثمّة مَن لن يطمئن إلّا بعد أن يراه بأم العين وقد حطت به الطائرة في المسمى باسم والده الشهيد رفيق الحريري، وبعد أن يرى أيَّ سعد الحريري هو الآتي من الرياض، وماذا يحمل في جعبته. فعندها يمكن أن يدخل الاطمئنان الى قلبه أو يدخل القلق
 

العودةُ الجسدية للحريري الى بيروت، وعلى أهميّتها وضرورتها، لا تُنهي أزمة الاستقالة وكل ما تفرّع عنها من عناصر إرباكية للداخل اللبنانية، ولعلاقات لبنان مع بعض الخليج، وكذلك من أضرار كبيرة جداً طالت التسوية الرئاسية القائمة على العمودين العوني والحريري وقدّمتها وكأنها قد أُطيح بها. بل إنّ هذه العودة تقع على الحدّ الفاصل بين صورتين واضحٌ أنّ إحداهما ذهبت مع بيان الاستقالة من الرياض، فيما الصورة الثانية لا يُعرف كيف ستتبلور بعد العودة وفي أيّ اتّجاه.

الوضع، وعلى ما بات مسلّماً به، أشبه ما يكون بمرآةٍ كانت تعكس صورةً سياسيةً لبنانية متعايشة بكل تناقضاتها وتقف على أرضيّةٍ حكوميةٍ واحدة محكومة بتسوية رئاسية ممهورة بتفاهمِ عون والحريري وبتفاهماتِ النأي بهذا التعايش، وكذلك بهذه التسوية، عن كل عناصر الخلاف والتباين الجوهري بين كل الشركاء فيه، هذه المرآة انكسرت، وصارت إمكانيةُ إعادة لحم المرآة لتعكسَ الصورةَ نفسَها والتعايشَ نفسَه والتسويةَ نفسَها التي كانت تعكسها قبل «سبت الاستقالة» بحُكمِ المستحيلة.

معنى ذلك أنّ منطق القائلين أو الساعين لعودة الأمور الى ما كانت عليه قبل الاستقالة وإعادة ضبط المشهد الداخلي على إيقاعِ الصورة السياسية والتسوية التي كانت سائدةً في مرحلة ما قبل الاستقالة، على اعتبارها الصيغةَ المثلى لانتشالِ لبنان من أزمته، ولعودةِ العجلة السياسية وعجلة البلد الى سابق دورانها.

ويعتبر أصحابُ هذا المنطق بأنّ الظروفَ ما زالت مؤاتية لإعادة إنتاج التسوية على ذات الأساس الذي قامت عليه، وثمّة علامة يعتبرها هؤلاء إيجابيةً تتجلّى في الفارق الكبير بين عناوين ومضمون خطاب الاستقالة من الرياض، وبين ما أورده الحريري في مقابلته التلفزيونية والتي ترك فيها البابَ مفتوحاً على احتمالاتٍ إيجابية يمكن أن يُبنى عليها ويُعتدّ بها في مرحلة ما بعد العودة.

يقابل ذلك منطقٌ آخر يستسهل ما جرى يجري، وبدأ يتصرّف على أساس أنّ التسوية التي وُلدت بقرار سعودي تعرّضت لضربة قاضية بقرار سعودي، ويقول بالانتقال الى صورة جديدة للمشهد الداخلي باتت أكثرَ من ملحّة، تُحاكي بيانَ الاستقالة من الرياض وكل العناوين التي أوردها الحريري في مقابلته التلفزيونية، وتحقّق حدّاً معقولاً من الأهداف التي بُنيت عليها الاستقالة. هنا يحضر السؤال: هل هذا الانتقالُ ممكن؟

واضحٌ أنّ كلا المنطقين محكومان بأسباب تحملهما على محاولة التقدّم على أيِّ منطق آخر، إلّا أنّ المنطقَ الأوّل ضعيفٌ جداً وغيرُ قابل للتحقيق في ظلّ ما استُجدّ أو بالأحرى في ظلّ ما انكسر، وثمّة تسليم عام داخلي وخارجي بأنّ ما بعد استقالة الحريري لم يعد كما قبلها.

وبأنّ الحريري – إن عاد الى بيروت – فلن يعود ويستأنف دورَه السياسي من النقطة التي توقّف عندها قبل الاستقالة، فهذا مستحيل لاعتباراتٍ وأسبابٍ تمتدّ من لبنان الى السعودية وما بعدها.

والأمر نفسه، أي الضعف، ينسحب على المنطق الثاني ذلك أنّ رسمَ صورة سياسية جديدة للواقع اللبناني وإنتاجَ تسوية سياسية بشروط جديدة، بالشكل الذي يُحاكي الاستقالة من الرياض وأسبابها المعلنة خلالها، دونه صعوبات. وخصوصاً إذا كان التعاطي السياسي ما بعد العودة سينطلق من النقطة التي انتهى اليها بيانُ الاستقالة، لوضع شروط جديدة على الطاولة لإعادة إنتاج تسوية جديدة ولكن بمعادلاتٍ جديدة.

هذا الأمر صعبٌ الوصولُ اليه في ظلّ الموازين الداخلية، وكذلك في ظلّ السقف الموضوع من قبل «حزب الله»، الذي يصرّ من جهة على التسوية الداخلية كما هي بكل عناصرها والتعايشية وتفاهماتها السياسية، ويرفض من جهة تقديم ما يسمّيها تنازلات أو جوائز ترضية مجانيّة، في لبنان أو خارجه، لأطراف إقليمية مأزومة، على حدّ تعبير أحد القياديّين في الحزب.

من الطبيعي الافتراض في هذه الأجواء أنّ عودةَ الحريري ستكون بتوقّعات منخفضة جداً، والاحتمال الأكثر ترجيحاً، هو أن يعودَ ويستأنف التعاطي من السقف الذي رسمه في إطلالته التلفزيونية، بما يُبقي التسوية السياسية المشترَكة بينه وبين عون على قيد الحياة، إنما ليس بالشكل الذي كانت عليه قبل الأزمة.

بل بحكومة تصريف أعمال دون إنجازات وقرارات، ومراوحة في ظلّها تحافظ على هدوء واستقرار البلد بالحدّ الأدنى للفترة الطويلة المقبلة وحتى ظهورِ مشهدٍ جديد على مستوى المنطقة، أو حتى موعدِ الانتخاباتِ النيابية.

وهنا يبقى السؤالُ يدورُ حول مصير هذه الانتخابات، فهي وإن كانت مستوفيةً كل الشروط القانونية والدستورية والتقنية والمالية لتغطية إجرائها، فضلاً عن أنّ حكومة تصريف الأعمال لها تستطيع الإشراف على إجرائها، إلّا أنّ الخشية التي تعبّر عنها مستوياتٌ سياسيةٌ ومقاماتٌ رئاسيّة تبقى ممّا إذا كان تطييرُ الحكومة الحالية يُخفي هدفاً أساسياً وهو تطيير الانتخابات النيابية في أيار المقبل؟

تطييرُ الانتخابات، كما يراه أحدُ المراجع خطراً كبيراً على البلد، فالانتخابات ورغم أنها بعيدة لأشهر، فإنها تشكل في ظلّ انسدادِ الأفق أمام لبنان حالياً، نقطةَ الضوء التي يمكن أن نَعبرَ منها الى إنتاج صيغة نيابية وسياسية وحكومية جديدة تتأتّى عن هذه الانتخابات، بما يُخرج البلد من الأزمة، وتطييرُ الانتخابات معناه تطيير البلد وهدمه بالكامل، فأزمةُ الاستقالة لم تنتهِ مع عودة الحريري، ولن تنتهي بسهولة، وإذا كان البلدُ على أهبة الانتهاء من «أزمة العودة»، مع أنني «لا أقول فول حتى يصير بالمكيول»، فإنّ أزمة الاستقالة ستكون مفتوحةً على أزمة أكبر ما بعد العودة، أي أزمة إنتاج الدولة أو بالأحرى أزمة العجز عن إنتاج الدولة التي أخشى أن أقول إنها تصدّعت. وأزمة الفراغ الحكومي والسياسي وما يستتبعها من فوضى، التي أخشى أن يكون هناك مَن يسعى لإيقاعِنا فيها.

لكن ما يجعلني أطمئنّ قليلاً، ويزرع فيّ الأمل بإمكان ألّا تطول إقامة البلد في سجن الأزمة الراهنة، هو المظلّة الدولية التي أُلقيت على لبنان خلال هذه الأزمة، والتي أكدت على جملة أساسيات: ممنوعٌ تفجيرُ لبنان.. هدوءُ لبنان واستقرارُه مطلبٌ وغايةٌ دولية ما زالت أكيدةً وسارية المفعول حتى الآن خصوصاً من قبل الدول الكبرى.. لا قرارَ بسورنة لبنان التي من شأنها أن تنهيَه وتفكّكَه.. لا يملك أيُّ طرف دولي أو إقليمي الحقَّ الحصري بتفجير لبنان ساعة يشاء.. والأهمّ من كل ذلك تأكيدٌ على حرّية حركة رئيس الحكومة، وهو ما بات مطلباً على مستوى كل العالم.