الحديث عن الفراغ أو الخواء الاستراتيجي كما سماه الأمير سعود الفيصل رحمه الله، ليس جديداً. فقد تحدث عنه الفيصل في مؤتمر القمة بسرت الليبية عام 2010. وكان المطروح وقتها إمكان إجراء حوار استراتيجي مع دول الجوار العربي وفي طليعتها إيران. وقال الفيصل إنّ هذا الحوار لكي يكون جدياً ومثمراً يتعين توافر نِدّية من نوعٍ ما، وهذا الأمر غير متوافر مع التدخلات المتفاقمة، ووجود الاختلال.
وبالطبع، ورغم المظاهر الكالحة للوضع العربي آنذاك، فإنّ التخريب الإيراني تفاقم إلى وقائع غير معقولة في السنوات الخمس الماضية، حيث صار الإيرانيون يتحدثون عن استيلائهم على أربع عواصم عربية، هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء! وظهر المحور الإيراني ما بين طهران وبيروت عبر العراق وسوريا!
أما نحن في لبنان، فكانت أوضاعنا تعيسةً وقتها بعد بدء تصدُّع حركة 14 آذار بخروج أطرافها منها تباعاً، إذ رغم فوز تحالف القوى الوطنية في انتخابات 2009، ما عاد من الممكن تشكيل حكومات إلاّ تحت السيطرة التعطيلية أو الاستيلائية للحزب. ومرةً أُخرى ورغم الفوز الانتخابي والتنازلات للحزب، فإنه هو وحليفه التيار الوطني الحر، وحليفهم الآخر بشار الأسد، قاموا بانقلابٍ سياسي أسقطوا بمقتضاه حكومة سعد الحريري الأولى عام 2011، وأتوا بحكومةٍ ذات لونٍ سياسي واحد، ما استطاعت الأكثرية النيابية منعَها من الاستيلاء، وظلت في السلطة قرابة الثلاثة أعوام، عادت خلالها عمليات الاغتيال السياسي، والتفجيرات والفتَن في المدن السنية وبينها طرابلس وصيدا بعد بيروت.
ورغم ذلك كلّه، فإنّ رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، ومن على باب المحكمة الدولية بلاهاي، والتي بدأت بمحاكمة قتلة والده، وكلهم من «حزب الله»، عرض على الحزب والجنرال عون تشكيل حكومة وفاق وطني ترأسها تمام سلام، وشارك فيها تياره. وكانت وجهة نظره، أنّ مدة رئيس الجمهورية ميشال سليمان إلى انقضاء، وأن التوافق على الحكومة ربما يسهّل التوافق على رئيسٍ جديدٍ للجمهورية. بيد أنّ شيئاً من ذلك لم يحدُثْ، بل أصر الحزب والجنرال على «عون» مرشحاً وحيداً، وما نفعت ترشيحات الحريري المتوالية بعد جعجع للجميّل ثم لسليمان فرنجية. إلى أن فاجأنا الرئيس الحريري بترشيح الجنرال نفسه بنفسه، بحجة حفظ الحدّ الأدنى من الدولة، وإعادة المؤسسات الدستورية للعمل. وكان المظهر الأكبر للتوازن الذي أراد الحريري إحلاله، مجيئَهُ هو لرئاسة الحكومة قبل قرابة العام.
والذي حدث في زمن حكومة «التوازن واستعادة الثقة» ما حدث مثله حتى إبّان السيطرة السورية على لبنان. فقد مضى رئيس الجمهورية الجديد، وبدون ممانعةٍ أو تمهيد باتجاه الانضمام الكامل للمحور الإيراني. وأول مظاهر ذلك الإقرار والشرعنة لسلاح «حزب الله» وذهابه إلى أن الجيش اللبناني لا يزال ضعيفاً، ويحتاج إلى مساعدة الحزب في الجنوب، رغم وجود القوات الدولية مع الجيش هناك، وتحت مظلة القرار الدولي رقم 1701 والذي يمنع وجود قوات للحزب في جنوب نهر الليطاني! ثم إنّ الرئيس ما اكتفى بذلك، بل اعتبر الحزب قوةً إقليمية، وقال إنّ العودة لبحث مسألة سلاحه، لا تكون إلاّ بعد انتهاء أزمة الشرق الأوسط! وظهر مدى التوافُق بين الرئيس والحزب حين أوقف الجيش عن مقاتلة «داعش» في جرود بعلبك وَعرسال، لأنّ نصر الله طلب منه ذلك!
وما بدأ تدخل الحزب في سوريا واليمن والبحرين والكويت أيام الرئيس عون. لكنْ في عهده، جرى التخلّي تماماً عن مبدأ النأي بالنفس في الأزمة السورية، وعن القرارات الدولية التي تحمي حدود لبنان، واشتهرت طلعات نصر الله على التلفزيونات مهدداً السعودية وسائر العرب. وبعد كل تصرفٍ داخليٍّ من تصرفات الاستيلاء على المؤسسات، أو على سياسة لبنان الخارجية، فإنّ الرئيس كان يتدخل لتغطية الحزب، حتى إنه منع إدانة إيران في مجلس الوزراء، عندما اعتدت على السفارة السعودية بطهران، وقنصليتها بأصفهان! وكانت آخر الاستفزازات استقبال علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني، الذي صرح بعد مقابلة رئيس الحكومة أنّ لبنان هو من محور المقاومة، وهي التي ستحميه!
لقد قالت جهاتٌ عربيةٌ ودوليةٌ لرئيس الدولة ولرئيس الحكومة ولمسؤولين لبنانيين آخرين مراراً، إنّ تغوُّل «حزب الله» يهدّد أمن لبنان والأمن العربي عموماً. لكنّ الرئيس لم يسأل، لا عن هذا ولا عن ذاك.
وعلى هذه الخلفية وعبر تراكم دام شهورٍاً طويلة، حصلت الأزمة الأخيرة متمثلة باستقالة رئيس الحكومة. فالمسألةُ الآن ليس كيف حصلت الاستقالة، بل كيف يقبل اللبنانيون والعرب بأن يتهدد أمنهم من الحزب وإيران!

 

*نقلا عن "الإتحاد"