أكثر الأزمات تعقيداً، هي التي تعصف بلبنان في هذه الفترة، ولا يمكن التكهّن بما ستؤول إليه الأمور في ظلّ الرؤية المنعدمة لِما جرى وما سيَجري، والباب المقفل أمام المخارج
 

حتى الآن، التريّث هو عنوان الحركة الداخلية الجارية لاحتواء الأزمة، وهو، أي التريّث، معلّق على حركة الرئيس سعد الحريري، التي لا يُعرَف حتى الآن المدى الذي ستَبلغه والمكان الذي سترسو فيه بشكل نهائي، أكان خارج لبنان ، ما يَعني أنّ الغد مجهول، أو في بيروت، وهذا من شأنه أن يُعزّز الأملَ في إيجاد مخرج لأزمة الاستقالة على نحو يحدّ من الخسائر والأضرار على الداخل ويطوّق أيَّ تداعيات واستتباعات لها من شأنها لو تفاقمت أن تفلتَ الأمور من عقالها ويدوس البلد على لغمِ الاستقالة الذي لا يمكن تقدير حجم شظاياه إذا ما انفجر.

هذا التريّث، بحسب تأكيدات أركان الدولة، ليس من النوع الذي يَحتمل أن يُعمّرَ طويلاً، لأنه يُبقي الأزمة معلّقة على خط النار ومفتوحة على الأسوأ.
وإذا كان أركان الدولة قد تمكّنوا من استيعاب الصدمة الأولى التي أحدثَتها استقالة الحريري من خارج الحدود ومحاصرة التداعيات قبل تفاقمِها، إلّا أنّهم يعترفون بأنّ نجاحهم في تلمّسِ المخرج الذي ينزَع صاعقَ اللغم، دونه صعوبات كبرى، إنْ لم يكن مستحيلات، خصوصاً أنّ الحريري ما زال خارج السمع، حتى إنّ أقربَ المقرّبين إليه في بيروت لا يعرفون عنه شيئاً، كما لا تَواصلَ مباشراً أو غير مباشر بينه وبين أيّ مِن شركائه في الحكم، الذين لا يملك أيّ منهم ولو معلومةً متواضعة حول ما إذا كان الحريري سيعود إلى بيروت في المدى المنظور أم لا.

حتى الآن، لم يُسلّم أركانُ الدولة بما يقال عن «احتجاز»، لا بل ثمّة من يذهب منهم إلى القول ان مِن المعيب أن يقال إنّه محتجَز، فهذا لا يجوز بحقّه أو بحقّ البلد ولا بحقّ السعودية.

ولكن ثمّة سؤال محيّر: حركة الحريري سواء في لقاء الملك سلمان بن عبد العزيز ومِن ثمّ زيارة ابو ظبي والبحرين ومِن بعد ذلك تواصُل الرئيس الفلسطيني محمود عباس معه، كلّ ذلك ينفي فرضيَّة الاحتجاز، فطالما إنّه قادر على مِثل هذا التحرّك، فلماذا لم يعُد إلى بيروت؟ وما الذي يَمنعه من ذلك؟ علماً أنّ عودته تُعزّز منطقَ القائلين بعودته الحتمية إلى بيروت، وتُضعِف، أو تنفي قطعياً منطقَ القائلين بأنّه محتجَز أو هو موجود تحت الإقامة الجبرية المقنّعة.

مع ذلك هل سيعود الحريري، ومتى؟

بالتأكيد أنّ الجواب لدى رئيس الحكومة المستقيل إعلامياً، ولكن ثمّة مَن يرى أنّ لعودةِ الحريري إنْ حصَلت في أيّ وقتٍ، وجهين:

- الوجه الأوّل، سلبي، ويقول بعودة قريبة، وربّما سريعة، يقدّم خلالها استقالته خطّياً، ومِن ثمّ يغادر. وهذا معناه أنّ الحريري منسجم مع بيان الاستقالة وما ورَد فيه، ويفتح البابَ بالتالي على أزمةٍ جديدة على حلبة الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف شخصية جديدة تشكيل الحكومة، إذ على أيّ أساس ستجري هذه الاستشارات ومَن هي الشخصية التي يمكن أن تجازفَ بقبول هذه المهمّة في الوقت الراهن.

- الوجه الثاني، إيجابي، ويقول بعودةٍ سريعة من دون أن يتقدّم باستقالة خطّية، ما يُحوّل الاستقالة إلى نوع من «الاعتكاف المؤقّت» وهذا معناه سيعود بعد فترةٍ إلى سلوك طريق العودة عن الاستقالة الإعلامية.

وهنا ثمّة مؤشّر يمكن التوقّف عنده مليًّا، وهو أنّ فريق الحريري لا يتعامل مع الاستقالة وكأنّها نهائية، ربّما لشِحِّ المعطيات المتوافرة لديه، ثمّ إنّ المكتب الإعلامي للرئيس الحريري بدا بالأمس متجاهلاً الاستقالة، وما زال يقدّم الحريري بوصفه «رئيس مجلس الوزراء»، دون الإتيان على ذِكر «رئيس مجلس الوزراء المستقيل» أو «رئيس الحكومة المستقيل»، وبدا ذلك جليّاً في بيان المكتب الإعلامي عن تلقّي الحريري للاتّصال من الرئيس الفلسطيني محمود عباس.

وثمّة مؤشّر آخر، ظهرَ في جرعة الدعمِ الأميركية الجديدة التي تلقّتها الحكومة، والتي ورَدت في ببان الخارجية الأميركية، الذي جاء بمضمون يُمكن قراءته على أنه مع استمرار الحكومة كما هي، ومع أنه وصَف «حزبَ الله» بالتنظيم الإرهابي، إلّا أنّ البيان الأميركي خلا من أيّ إشارة إلى حكومة بلا «حزب الله»، على نحوِ ما تردَّد على لسان البعض في لبنان، وكذلك في بعض الإعلام العربي.

ماذا بعد؟

الأمر الأكيد أنّ عاصفة الاستقالة ألبَست لبنان وجهاً جديداً، يَصحّ معه أن يُقال إنّ مرحلة ما بعد الاستقالة ليست كما قبلها. وعلى حدّ تعبير أحدِ المسؤولين «الواقع السياسي الذي كان قائماً قبل «سبتِ الاستقالة» أشبَهُ بلوحِ زجاج وانكسَر، وصار مستحيلاً أن يُعاد لحمُه وإعادةُ الأمور إلى ما كانت عليه، إذ لو استمرّ الحريري باستقالته معنى ذلك التوجّه الإلزامي نحو صيغة حكومية جديدة حتى ولو كانت صعبة، وليس مضموناً أن تلبسَ الثوبَ الحريري من جديد، وليس من يستطيع أن يُطمئن بأنّ البلد لن يدخلَ في أزمةٍ سياسية مستعصية. وحتى لو عاد الحريري عن استقالته وعاد إلى مزاولة منصبِه كرئيس للحكومة، فالعلاقة بينه وبين مكوّنات حكومته لم تعُد صلبة بل تفسّخَت.

أكثر من ذلك، إنّ الاستقالة بالطريقة التي تمّت فيها، والأسباب التي استند إليها الرئيس المستقيل، والمكان الذي أُعلِنت منه، أحدثَت فجوةً
عميقة بين الرئاستين الأولى والثالثة.

الحريري استقالَ وغاب عن السمع، رئيس الجمهورية فوجئ، إلّا أنّه تعاطى مع الأمر برويّة، معتمداً سياسة الإسفنجة لامتصاصِ الصدمة، وتتملّكُه الرغبة بتجنّبِ الخسارة للعهد، أو الحدّ منها، خصوصاً أنّ بعض ما رافقَ الاستقالة مِن هجومات سياسية وإعلامية مِن خارج الحدود أشعَرَ الطاقمَ الرئاسيّ والسياسي بأنّ الرئاسة الأولى مستهدَفة وأنّ التسوية التي جاءت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، قد أُعدِمت وأُعلِنت نهايتُها مع الاستقالة.

يبقى أنّ الصدمة الأولى للاستقالة قد تمّ استيعابُها، والداخل، وهذه علامة إيجابية، لم يتفاعل معها سلباً أو توتيراً أو تصعيداً، حتى تكاد هذه الاستقالة تصبح حدثاً عادياً. ما يَعني أنّ الداخل مضبوط على إيقاع التهدئة، إلّا إذا تحرّكَت بعض الرؤوس الحامية ووجَدت مَن يُماشيها ونجَحت في إشعالِ فتيلِ الاشتباك الداخلي، هنا يصبح الباب مشرَّعاً على شتّى الاحتمالات.