عندما كان لبنان يرزح تحت الوصاية السورية، كان النظام السوري يرسل إليه من يريد من «ضيوفه»، حتى ولو كانوا من أعداء لبنان أو من أعداء الدول الحليفة للبنان. وكان هؤلاء يقيمون إما فيه وينشئون مخيمات عسكرية، أو يزورون المسؤولين، ويصرون على التصريح أمام المؤسسات الرسمية بمواقفهم المعادية، إما لنصف اللبنانيين أو للدول الحليفة. أذكر مرة أثناء إجرائي مقابلة مع رئيس الوزراء التركي آنذاك تورغوت أوزال، أنه أخبرني كيف طلبت تركيا من الرئيس السوري حافظ الأسد تسليمها الزعيم الكردي عبد الله أوجلان. فكان رد الأسد، أن الأمر ليس في يده، فأوجلان مقيم هو ومعسكره في سهل البقاع اللبناني، ولبنان دولة ذات سيادة، وسوريا لا تتدخل في شؤونها الداخلية. قال أوزال: كان لا بد من تهديده عسكرياً، فحشدنا على الحدود، وإذا بأوجلان «يتبخر» من لبنان ويصبح في السودان.
وهذا ما تفعله إيران اليوم في لبنان. فبعد المجموعات الشيعية العراقية، ها هي إيران تطلب من صالح العروري، من مؤسسي تنظيم «كتائب عز الدين القسام»، أن ينتقل من قطر إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، وقد انتخب حديثاً نائباً لإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس».
في لبنان، استقبله الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله استقبالاً لافتاً، لكن لم نلحظ أي تساؤل من جانب الدولة اللبنانية، فكيف يقيم العروري في لبنان، وكيف حصل على إذن إقامة فوق الأراضي اللبنانية. ولم تتأخر فضائية «الميادين» في تغطية وصول العروري وإقامته في لبنان ولقائه مع نصر الله.
لا شيء حتى الآن، على ما يبدو، يوقف إيران عن تحقيق استراتيجيتها بمثابرة، خصوصاً أن الاتفاق النووي لم يشمل برنامجها الصاروخي، بل أغرقها بالأموال، وبهذه الأموال تواصل بناء ترسانتها الصاروخية. إيران في هذه المرحلة تريد أن تسابق الزمن، تدرك أن العد العكسي سوف يبدأ قريباً، وتريد أن تفرض وقائع على الأرض؛ إذ أقدم الحوثيون على توجيه صاروخ إيراني استهدف مطار الملك خالد في الرياض، وأظهرت لقطات الفيديو كيف أن المضادات السعودية فجّرت الصاروخ في الجو. وأدرك السعوديون أن هذه رسالة من إيران لهم (بعد انعقاد مؤتمر الاستثمار) وبالتالي عليهم الرد. وكعادتها نفت إيران أي تدخل لها. وكان الأدميرال الأميركي كيفن دوناغان، وهو الأعلى رتبة في الشرق الأوسط، أكد في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي استمرار إيران في تهريب الأسلحة والتكنولوجيا غير المشروعة إلى اليمن، لتسعير الصراع الأهلي ولتمكين المتمردين الحوثيين المدعومين من قبلها بإطلاق صواريخ أكثر دقة وأبعد مدى على السعودية.
تعرف إيران أن حرب اليمن لن تنتهي إلا عندما توقف تدخلها، ومع هذا فإنها منكبة على تطبيق الهلال الشيعي الإيراني عبر الدول العربية.
قبل أسبوعين تقريباً عاد وفد من كبار مسؤولي حركة «حماس» من زيارة عمل إلى طهران دامت 7 أيام، التقى خلالها مسؤولو الحركة، ومنهم محمد ناصر المسؤول عن العلاقات بين «حماس» وإيران، وظاهر جبارين ممثل «حماس» في الضفة الغربية، ورئيس مجلسها التنفيذي، مع كبار المسؤولين الإيرانيين، بمن فيهم علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى، وذُكر أن صالح العروري (الذي توجه بعدها إلى لبنان) استقبله المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، حيث انتهى اجتماعهما بالإعلان عن «أن الاثنين بحثا القضية الفلسطينية والكثير من القضايا الإقليمية المشتركة»، لكن مصادر مطلعة على العلاقات ما بين «حماس» وإيران أشارت إلى أن هذا الإعلان لا يعكس النطاق الحقيقي للمصالح المشتركة بين الطرفين. لكن لماذا أصدرت «حماس» هذا البيان الضعيف، ربما لأنها كانت تعرف أنها تحت المراقبة، فالسلطة الفلسطينية بعد التوقيع على اتفاق المصالحة، ظلت حذرة من سلوك الحركة، في حين أن الدول المعتدلة، التي أخذت على عاتقها دور الوسيط مثل مصر، وكذلك تركيا التي زودت «حماس» بملاذ آمن وهادئ في السنوات الأخيرة، تتطلع إلى تحرك «حماس» نحو المحور الإيراني الراديكالي.
وكان لوحظ أنه في الأشهر الأخيرة، وبالذات بعد انتخاب زعيم الجناح العسكري لـ«حماس»، يحيى السنوار لرئاسة المكتب السياسي في قطاع غزة، وبعد انتقال صالح العروري من قطر إلى الضاحية الجنوبية في بيروت، معقل «حزب الله»، أن الدعوة إلى تشديد العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع إيران تكثفت.
بالإضافة إلى ذلك، فبعد انتهاء مدة رئاسة خالد مشعل للمكتب السياسي لـ«حماس»، وكان بنظر إيران من المتمردين، تمت إزالة العقبة الرئيسية أمام التقارب بين «حماس» وإيران، ويبدو واضحاً أن القيادة الحالية برئاسة السنوار وإسماعيل هنية والعروري لا تجد أي مشكلة في الحفاظ على علاقات مفتوحة مع نظام ولاية الفقيه، بل على العكس يتباهى زعماؤها بهذه العلاقات في الداخل والخارج. إن التعاون بين إيران و«حماس» ليس بجديد، إذ ولفترة طويلة كان الجناح السياسي للحركة يدق أبواب طهران في محاولة يائسة لزيادة التمويل الإيراني لخزائنه الفارغة، في حين كان ولا يزال الفرع العسكري يتمتع بمخصصات مالية نقدية. إن توقيت زيارة إيران لم يأتِ من قبيل الصدفة؛ إذ وصل وفد «حماس» إلى طهران بعد أيام قليلة من توقيع اتفاق المصالحة، وتقول مصادر مطلعة إن الاتفاق وقع بعدما أعطت إيران الضوء الأخضر لـ«حماس». وهذا جزء من الاستراتيجية الإيرانية لتشجيع المسلحين على السيطرة تدريجياً على الدول التي يعملون ويتحركون فيها، كما الحال مع «حزب الله» في لبنان، وكلنا نعرف أن الحزب تأسس في الثمانينات تحت رعاية إيرانية كميليشيا، لكن في غضون بضعة عقود تطور إلى حزب سياسي له موطئ قدم كبير في البرلمان اللبناني وكذلك في الحكومة اللبنانية. هذه الطريقة تسمح لإيران بزيادة ترسيخ قبضتها في دول المنطقة. إنها تود تكرار قصة «حزب الله»، من ولادة وصلابة عود، مع «حماس»، فمن شأن الترسيخ الإضافي في العالم العربي أن يسمح لإيران بتحقيق خطتها لإقامة الهلال الشيعي، أي إنشاء اتصال إقليمي من إيران، مروراً بالعراق إلى البحر الأبيض المتوسط عبر سوريا ورام الله وقطاع غزة، وها هو أبو مهدي المهندس قائد «الحشد الشعبي العراقي» الذي أنشأته إيران يقول يوم الجمعة الماضي: «إن الحشد سيتوجه إلى الحدود العراقية - السورية بالكامل للإشراف عليها وتطهير ما تبقى من حوض الجزيرة الشمالية للفرات». استغلت إيران الصعوبات التي تواجهها «حماس» ورأت فيها فرصة لزيادة نفوذها على الحركة وعبرها إلى الشرق الأوسط بأسره. وكان من السهل دفع «حماس» إلى الدخول في اتفاق مصالحة، مقابل استمرار المساعدات العسكرية عن طريق تهريب الأسلحة ونقل عشرات الملايين من الدولارات سنوياً. وتأكيداً على عمق العلاقة بين إيران و«حماس» لم تشأ الأخيرة أن تتأخر عن واجب المشاركة في مأتم والد قاسم سليماني قائد «فيلق القدس»، وقد ترأس الوفد صالح العروري الذي ربما سافر من مطار بيروت، ولم يأبه الوفد حتى بما احتج عليه العراقيون، ورأوا أن تصرف الزوار الإيرانيين غير مبرر، وغير مقبول منهم تسييس زيارة الإمام الحسين، عندما أساءوا لاسم السعودية.
تحاول «حماس» بفرعيها السياسي والعسكري نسج طريقها بين قوى المنطقة للحفاظ على الدعم الإقليمي والمالي، أولاً من تركيا، ثم من مصر والآن من إيران. هذه الانتهازية، التي تعتقدها «حماس» انفتاحاً عليها وترحيباً بها، خصوصاً العروري في الضاحية الجنوبية لبيروت، تجعل منها ليس أكثر من بيدق للنظام الإيراني في تحقيق طموحات إقليمية بعيدة المدى في لبنان، وسوريا، والعراق واليمن. إنها لعبة، سيدفع فيها الشعب الفلسطيني الثمن الباهظ، تماماً كما يحل بالشعب اليمني. لقد فعلت «حماس» ذلك مراراً في السابق، عندما كانت الأنظمة العربية تستخدمها للدفع بمصالحها الخاصة، وها هي قد استدارت الآن وسقطت في اللعبة الإيرانية. وقد تكون اختارت الوقت الخطير وغير المناسب إطلاقاً.