لم ترتح السعودية الى الشراكة الحكومية التي قامت بين “حليفها” رئيس “المستقبل” سعد الحريري و”حزب الله” منذ نحو سنة، لاقتناعها بأن “حزب الله” عدوّها هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فيها نظراً الى الخلل الفاضح ولمصلحة الأخير في ميزان القوى الداخلي، ولاقتناعها أيضاً بأنه صار ممسكاً جداً بالقرار بعد نجاحه في اختراق مؤسساتها على تنوعها وبعد تحوله قوة عسكرية إقليمية يُحسب لها ألف حساب، وكذلك بعد تنفيذه قرار إيصال حليفه الماروني العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية. لكنها لم تعترض بشدة على التسوية التي أدت إليها لأن حليفها السنّي الأول وربما مع حليفها الماروني الأول الدكتور سمير جعجع، أقنعاها بوجود فرص لإزالة الخلل المُشار إليه بعد مدة باستعادة عون الى الصف المناهض لمحور دمشق وطهران و”حزب الله”، أي الى الموقف الذي تمسّك به منذ نفيه الى فرنسا بعد إزالة “تمرّده” بالقوة العسكرية السورية، وحتى قبل أشهر من عودته الى البلاد بعد نجاح دمشق والرئيس أميل لحود في عقد صفقة معه تزيل عقبات العودة كلها، وتفتح له باب تحقيق طموحاته الرئاسية. لكن المملكة تأكدت بعد مرور أشهر على عمل الحكومة أن الرئيس الماروني لم يتغير، وأن التسوية بل الشراكة بين الحليف السنّي و”الحزب” وحلفائه بدأت تتعمّق. وتأكدت أيضاً من استحالة تنفيذ الحليف ما وعد به، وخافت من تعرّضه للاحتواء نتيجة الخوف والمصالح في آن. ترافق ذلك مع تصعيد “الحزب” هجومه على السعودية ومع تصاعد مواجهتها مع حليفته إيران. في هذه المرحلة بدأ المسؤولون في الرياض استنهاض حلفائهم السنّة والمسيحيين والدروز في لبنان لمواجهة تنامي سيطرة إيران على البلاد، أو على الأقل لمنع ضرب النفوذ والوجود السعوديين فيها. يومها، أي في 11 تشرين الأول الماضي، كتبت في المقطع الأخير من “الموقف هذا النهار”، رداً على سؤال إذا كان الحريري سيتجاوب مع الاستنهاض السعودي الآتي:
“مشجّعوه على التجاوب يقولون أنه قد يقدم استقالة حكومته فتبقى حكومة تصريف أعمال. وبذلك يشدّ عصب السنّة ويرضي السعودية، ويحصل منها على العصب الذي يمكنه من الصمود أي المال. ومطالبوه بالصبر وتحمّل ما لا يريحه حالياً في البلاد وفي الدولة وفي سياسة الحكم والممسكين به يلفتونه الى أن الاستقالة ستوقف المشروعات والانجازات “المُجزية” في الوقت الذي لا أحد يؤكد أن المملكة ستعوّض له ذلك. مع أي من الدعوتين سيتجاوب الحريري؟ وهل من سياسة سعودية خاصة بلبنان مماثلة أو مشابهة لسياسة إيران حياله؟”.
 ار” أيضاً “أن الحريري بين خيارين صعبيْن محلي وإقليمي” (خيار المملكة أو إيران وخيار الاستمرار في شراكة مع “الحزب” أو فضّها). كل هذا للقول أن خيار استقالة الحكومة كان على الطاولة لكن البحث فيه لم يكن نضج بعد، لأن السعودية فضّلت رغم تصاعد انزعاجها من الشراكة وحربها مع راعيتها إيران و”حزبها” في لبنان الصبر على المكاره وإعطاء الوقت لحليفها كي يتخذ القرار المناسب، لكنه لم يتخذه. لا بل أنه بذل الكثير في حركته السياسية الداخلية لاقناع أنصاره ومريديه وحلفائه بأعطائه مزيد من الوقت، وبأنه لم يتخل عن ثوابته وبأنه لم يستسلم لـ”حزب الله” بل “ربط النزاع” معه، لأن الشعب بكل طوائفه يحتاج الى الكثير الذي يجب تأمينه له. وفضّ الشراكة يفاقم مشكلاته ويضاعف مصائبه والهموم، لكن “كيل المملكة طفح” كما يُقال وهي ترى لبنان وبقيادة رسمية من حليفها وفعلية من “الحزب” وحليفه رئيس الجمهورية في درب معادية لها تماماً وغير متقاربة مع مصالحها، فأطلقت جرس الانذار.
طبعاً لم يكن ذلك مفاجئاً للحريري وحلفائه، وأبرز هؤلاء من المسيحيين رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع. فهو عرف من لقاءاته مع المسؤولين في الرياض وديبلوماسييها في بيروت أن لا أمل عندها في نجاح الشراكة مع “حزب الله”، وأنها تخشى خسارة مدوّية في لبنان جرّاء استمرار الحريري في نهجه. فحاول إقناعه أكثر من مرّة بوضع حد لما يجري وبالمواجهة (الاستقالة ربما). لكن جوابه كان أعطونا ستة أو سبعة أشهر وبعدها نرى ما يحصل. وربما كان يقصد انتظار الانتخابات النيابية في أيار المقبل ونتائجها، أو نجاح الجهات الدولية في ترتيب أوضاع المنطقة، أو تنفيذ أميركا ترامب وعودها للمملكة وأبرزها التصدّي لإيران الراعية الأولى للإرهاب في العالم” كما وصفها.
طبعاً اللبنانيون المقيميون لم يكونوا على اطلاع دقيق على هذه الأمور. لكن لبنانيي الانتشار اطلعوا في أثناء زيارة جعجع لهم، وخصوصاً في أوستراليا أخيراً على المشروع أعلاه، وربما على أكثر منه. وتفيد المعلومات في هذا المجال أنه كان صريحاً مع الجميع وخصوصاً مع “تيار المستقبل” الذي اجتمع طويلاً بقادته في سيدني، وكان النقاش حاداً في بعض الأحيان. وفي نهايته أبلغ إليهم “الحكيم” أنه لن يستطيع الاستمرار في التعاون والتحالف إذا تمسّك الحريري بنهجه. أخبرهم أن المملكة العربية السعودية “تريد ذلك” بإصرار أي الاستقالة، وطلبتها بقوة من حلفائها المسلمين والمسيحيين. لكن تفاصيل عدّة مهمة فاجأت اللبنانيين. أولها الارتياح الذي بدا على الحريري في أثناء استقباله مستشار الولي الفقيه آية الله علي خامنئي الدكتور علي ولايتي مع ابتسامة دائمة في بيت الوسط قبل استقالته بيومين. وهو ارتياح لم تلتقطه كاميرات الاعلام في أي اجتماع ضمّه سابقاً مع مسؤولين كبار في أحزاب أو دول يتهمها و”شعبه” بالمسؤولية عن اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري. فهل كان اتخذ قراراً بالعودة الى “الاغتراب” عن البلاد، ويريد إعطاء انطباع يحول دون مبادرة “الفاعلين” في البلاد الى منعه من مغادرتها؟ وثانيها اللهجة الحازمة والقاسية والعنيفة التي استعملها في أثناء تلاوته بيان الاستقالة من على شاشة التلفزيون، والتي تشابه اللهجة واللغة التي يتهاجم فيها العدوّان السعودية وإيران. وهي أعطت انطباعاً أن قراره نهائي وأن عودته الى البلاد لن تكون قبل تغيّر أحوالها وأوضاعها، وهي الآن في مصلحة “أعدائه” الداخليين والاقليميين. لكن الخبثاء لا يستطيعون إلا أن يدلوا بدلوهم في هذا المضمار بأسئلة أو تساؤلات من نوع: هل كان الحريري مقتنعاً بالاستقالة والأسباب التي دفعته الى تقديمها؟ أم أنه أُجبر عليها في المملكة وربما عند اتخاذه قرار التوجّه إليها؟ وهل صحيح أن معلومات جدّية عن مؤامرة على حياته بلغته فقرر عدم تكرار مأساة الوالد؟ هل خُيّر بين مصالحه رغم تدهور بعضها ومصالح عائلته وبين رئاسة الحكومة؟ طبعاً لا أجوبة على الأقل الآن عن ذلك. ماذا يحصل الآن؟ أي ماذا يفعل رئيس الجمهورية وحليفه الأقوى في البلاد وربما في المنطقة بعد إيران؟
لم نسمع تعليقاً أو موقفاً حتى تاريخ كتابة هذا “الموقف”. لكن ما يمكن الإشارة إليه هو أن الحكومة لم تعد تستطيع أن تستمر في تصريف الأعمال الذي يكفله لها الدستور والقانون. فرئيسها مستقيل وخارج البلاد. ومن الصعب إيكال رئاستها الى نائبه المسيحي أو تعيين رئيس لها بالوكالة من بين أعضائها السنّة، وذلك حصل مرة في لبنان. كما أنه من الصعب على ممثلي “المستقبل” في الحكومة الاستمرار في تصريف الأعمال. ذلك أن الاحتقان السنّي لا بد أن يكون في ذروته، وكذلك احتقان السعودية التي يسعى هؤلاء كلهم الى نيل رضاها. وخروجهم لا يشجّع المستقلين على الحلول مكانهم. لذلك يبقى “الحل” الأفضل قبول الاستقالة وإن تلفزيونية أي غير خطية التي ربما يعتبرها القانون “قانونية”. لكن أي حكومة ستتألف وبرئاسة من؟
لا شك في أن أي وزير أو نائب “مستقبلي” لن يقبل هذه المهمة حتى وإن كان طامحاً الى التربّع على سدة رئاسة الحكومة في السراي، أو وإن كانت له اتصالات معروفة ولكن غير معلنة مع “حزب الله” للوصول الى هذا الموقع. أما المستقلّون فلا أحد يعرف إذا كان السياسيون منهم (هل بقي في البلاد مستقلّون؟) والتكنوقراط يمتلكون الجرأة ليس لممارسة الحكم بل الانتحار وعلى أعتاب انتخابات نيابية. وكي لا نبقى في العموميات هل يقبل الرئيس نجيب ميقاتي هذه المهمة؟ أو النائب عبد الرحيم مراد؟ أو النائب السابق أسامة سعد؟ لا أحد يعرف. واذا وجد الفريق الأقوى والأقدر في البلاد رفضاً للتعاون معه في حكومة جديدة فإنه قد يلجأ الى حكومة تمثّله وحلفاؤه مع بعض السنّة الموالين لها. وبذلك يكون يعلن للبنانيين والعرب والعالم ما يعرفونه وهو أن “الأمر صار له” رسمياً بعدما كان فعلياً. إلا إذا تدخلت دول كبرى “تدّعي” دائماً حرصها على استمرار الاستقرار الهشّ السائد في لبنان ريثما تنتهي حروب سوريا والعراق والمنطقة، ورعت قيام حكومة “حيادية” الى حد ما لكن عاجزة عن وقف استكمال لبنان دخوله “العصر” الذي يعيشه منذ مدة. في أي حال انعكاسات الاستقالة المفاجئة والمفجِّرة للحريري مقلقة بل مخيفة ومرعبة على الصعيد الاقتصادي وربما النقدي. ولا شيئ يمنع أن تطال مفاعيلها الأمن الهش أساساً. علماً أنها ربما تساعد إسرائيل، الحائرة بين شنّ حرب واسعة على لبنان و”حزب الله” فيه وبين عدم خوضها نظراً الى أكلافها الكبيرة، على حسم تردّدها خصوصاً في ظل وحدة الموقف المعادي لإيران وحلفائها بينها وبين أميركا ترامب وحلفائه العرب من خليجيين وغير خليجيين بعدما قامت علاقات بينها وبينهم معروفة وإن غير رسمية. الله يستر.