تصل تعابير الغضب إلى حد شتم حزب الله وقياداته، فرد الفعل هنا يكون نوعًا من الإنتفاض على الأذية التي يعتقد المخدوع أنه تعرض لها
 

بين فورة أصحاب الأكشاك التي هدمتها القوى الأمنية في حي السلم، والرد الغاضب على هؤلاء الذي شكل خطاب النائب علي عمار "الصبّاطي" ذروته، وبين "فعل ندامة" تلاه الذين شتموا حزب الله وقياداته بمن فيهم السيد حسن نصر الله، ترتسم صورة "الجمهورية" التي بناها الحزب في الضاحية الجنوبية.
لقد مر وقت كاف كي تضمحل معالم الصورة النمطية عن الضاحية كمكان تجمع فيه نازحون شيعة من الجنوب والبقاع وبلاد جبيل، دفعهم فقر الحال في قراهم وبلداتهم للبحث عن فرص أفضل لكسب لقمة العيش، فجاؤوا إلى المنطقة، وعاشوا في وئام مع أبنائها الأصليين، مسلمين ومسيحيين.
اليوم الضاحية الجنوبية مجتمعات في مجتمع واحد، ثمة فقراء ازدادوا فقرًا وآخرون نقلتهم الظروف من الفقر إلى اليسر، وبعضهم إغتنى، وثمة طبقة متوسطة من موظفين وأساتذة وهناك أغنياء تتنوع مصادر غناهم: بعضهم جاء بالمال من أفريقيا، وبعضهم من التجارة التي ازدهرت لفترة قبل سنوات، وآخرون من مصادر تغلب عليها الشبهات وثمة مَن يعيشون على الهامش.
هذا المجتمع المتنافر في العمق، يبدو متجانسًا في الظاهر وربما تصح معه المقولة الفلسفية متجانس "بالقوة"، متنافر "بالفعل"، تجانسه هو الصورة النمطية، التي تتكون معالمها في الإستظهار المتولد من مقولتي "مجتمع المقاومة" و"البيئة الحاضنة"، لذلك يصبح كل تصرف أو كلام لا ينسجم مع موجبات التماهي مع شروط الإنتماء إلى هاتين المقولتين نوعًا من الخروج غير المقبول في أحسن الأحوال، والمرفوض الموجب قمعه في غالبها.

إقرأ أيضًا: سرايا المقاومة تلاحق كل من شارك في أحداث حي السلم الأخيرة
ودائما تجد وصمة جاهزة لنعت كل خارج، إما بالعمالة أو تجارة المخدرات (وكأن تاجر المخدرات لا ينكشف إلا عندما يقوم بما يتعرض لهيبة حزب الله وسطوته) وإذا كان من رأفة فإنه يُكْتَفى بوصف الخروج على الإجماع المرسوم بغير المنضبط.
فورة أصحاب الأكشاك التي جرى هدمها في حي السلم، كانت ردة فعل غاضبة على إجراء لا تعوزه الوجاهة القانونية فالهدم طال مخالفات واضحة وأبطل تعديًّا صريحًا على الملكية العامة، الغضب الذي ميز ردة الفعل هذه يتجاوز في مضمونه التعبير عن رفض لإجراء طال مورد الرزق على ما اعتبروه إعتداء على أمانٍ يرون في حقا مكتسبًا مقابل انسجامهم مع الصورة النمطية الجامعة لمجتمع الضاحية، إنه نوع من الغضب الذي يميز رد فعل مَن يجد نفسه مخدوعًا.
المخالف في الضاحية الجنوبية يمارس ما يعتبره حقه في المخالفة، بمقابل التزامه شروط الإنسجام ضمن الإجتماع العام ل "مجتمع المقاومة" و"البيئة الحاضنة" وهو إنسجام يكفي التأكيد عليه أن يرفع المخالف صورة للسيد حسن نصر الله أو للسيد نبيه بري، أو يافطة بأقوال لأحدهما وشعارات لحزب الله وحركة أمل، كي تصبح منشأته حقا مكتسبا بفعل الأمر الواقع والإستمرارية، بل أنه يسيُّجها ويزينها بالمزروعات بعد أن يعطيها إسما.
في مجتمع التجانس الظاهري، يصبح اللا نظام هو النظام السائد وعندما ينبري حزب الله على لسان مسؤوليه من وزراء ونواب إلى الدعوة لتطبيق النظام وإزالة المخالفات، فكأنه ينبري لهدم نظام هيمنة ونفوذ بناه بأسس اللا نظام.
لا يفترض بحزب سياسي أن يقوم مقام الأجهزة المعنية بتطبيق النظام والقانون، وبتوفير الإحتياجات المعيشية للمواطنين وهذا ما لا ينبغي طلبه من حزب الله، المسألة المطروحة في الضاحية الجنوبية تكشف أمرًا آخر، يتعلق بالثقافة المجتمعية التي تسود هناك، حيث معاداة القانون ومخاصمة الدولة، هما الوجه الآخر لإنعدام الممارسة المدينية الحقيقية لأبناء الضاحية، بحيث يصبح مقبولا عدم محاسبة النائب من حزب الله لأنه لا يمارس مهامه نيابته في إقتراح مشاريع قوانين ترفع الغبن عن المغبونين ويلاحق تنفيذها، وتنتفي مسؤولية البلديات عن الحفاظ على المظهر الحضاري للمناطق الواقعة في نطاق سلطاتها.

إقرأ أيضًا: مناقصة بواخر الكهرباء ... فرض شروط تعجيزية على قياس شركة واحدة
ومن أين تأتي هذه الممارسة، ما دامت المنطقة تفتقر إلى مراكز إنتاج يقدم قيمة مضافة، وتغيب النوادي الثقافية والمكتبات العامة ودور السينما وتحضر ثقافة المجمعات الدينية التي تقوم مبانيها الضخمة في كل حي، وتنحصر الإحتفالات في كل ما يصب في إبراز الصورة النمطية ذاتها.
المخالفات التي تشمل كل حي وشارع، على إمتداد مناطق الضاحية من الطيونة حتى حي السلم، تقوم منذ عقود وهي تتناسل كل يوم تحت سمع وبصر البلديات، الجهة المعنية مباشرة بضبط النظام المديني في مناطق الضاحية، والحفاظ على الملكية العامة وهذه البلديات تخضع بقراراتها لحزب الله، ومعظم نشاطاتها تصب في مصلحته وحين يكون المنطق الطبيعي مساءلة هذه البلديات عن سبب سكوتها، بل سماحها بهذا الوضع، فإن الواقع يجعل هذا السؤال نافلًا، لأن المخالفات وهي تنمو وتتخذ أسماء أصحابها جهارًا، تصبح مشرعنة وحقا مكتسبًا للمنتفعين بها، وتصبح غضبة هؤلاء حين المساس بها دفاعًا عن حق مشروع، وإذ تصل تعابير الغضب إلى حد شتم حزب الله وقياداته، فرد الفعل هنا يكون نوعًا من الإنتفاض على الأذية التي يعتقد المخدوع أنه تعرض لها، ذلك أن المخالف يعتقد أن ولاءه هو الثمن الذي إستحق به أن يخالف، وحين يُسلَب هذا الحق فليس أقل من أن يجاهر بحقه في إسترداد الثمن.
 معادلة غريبة عجيبة، يتلاشى جانبها العجائبي لحظة إنصياع "المخدوع" فيعود إلى جادة الولاء جهارًا، كما خرج منها جهارا، ولكن مع "غرامة" كناية عن رفد فعل الندامة والتوبة باللّازمة الصبابطية! 
أما الحديث عن شكل حضور أجهزة الدولة والمؤسسات الشرعية في الضاحية فهذا أمر ذو شجون.