شهدت الأيام الأخيرة اتهام الروس للأميركيين بأمرين؛ تخريب الرقة بفظاعة ما كانت الوقائع تقتضيها، ومن جهة أُخرى التآمُر مع «داعش» على تسلُّم المناطق التي تحتلها بشرق دير الزور والفرات، لتسبق بذلك قوات النظام السوري وحلفائه. والدعويان متناقضتان. فإذا كان «داعش» متآمراً مع الأميركيين أو مُسالماً لهم، فما الداعي لقصفهم العنيف للرقة على مدى سنوات، وقد كانوا يستطيعون الاتفاق معهم على التسلُّم والتسليم. لكنْ في الحقيقة فإنّ احتلال «قوات سوريا الديمقراطية» لحقل العمر النفطي، وسبْق القوات السورية والميليشيات إلى ذلك، رغم أنهم كانوا أقرب إليه (3 كيلومترات) يثير شكوكاً بالفعل. وهذا بالإضافة إلى شكوك لافروف في انسحاب «داعش» لصالح الأميركيين لجهة محافظة الحسكة. وهناك أمرٌ غامضٌ ثالثٌ إذا صحَّ التعبير، وهو غارات المجموعات الخاصة الأميركية وإنزالاتها بدير الزور قبل شهرين. ووقتها كانت القوات السورية والميليشيات الإيرانية تقترب من المدينة على أساس أنّ هناك «قسمة»: للأميركيين وحلفائهم الرقة، وللروس وحلفائهم دير الزور. ولذلك فقد فهم المراقبون أنّ إنزالات الأميركيين بدير الزور كان هدفها أحد أمرين: إما إجلاء عملائهم في قلب المدينة قبل اقتراب الروس وحلفائهم منها، أو إجلاء بعض الأجانب الدواعش، الذين تواصلوا معهم من أجل ذلك.
وعلى أي حال؛ فإنّ الغامض الأكبر هو «داعش» ذاته. فمنذ العام 2014 يُهوِّل علينا الأميركيون بأنّ الأجانب وحدهم، الذين انضموا إلى «داعش» بسوريا والعراق، يزيدون على الأربعين ألفاً. وإذا افترضنا أنّ «محليي داعش» يبلغون العدد نفسَه أو يقاربونه؛ فإنّ معنى ذلك أنّ «داعش» كان يملك ما لا يقل عن السبعين ألفاً من المقاتلين في سوريا والعراق!


أين ذهب هؤلاء؟ فمنذ شهور يقال إن «داعش» بالموصل لا تزيد قوته على الألفي مقاتل؛ وفي تلعفر أقل من ألف، ومئات في بقية المناطق بالعراق. أما في سوريا؛ فإنّ «داعش» قيل إنه يملك زهاء الأربعة آلاف بالرقة، وثلاثة آلاف بدير الزور، وثلاثة آلاف أخرى في مختلف أنحاء البادية وحواشيها فيما بين القريتين وحمص والميادين والبو كمال. وقد خرج حتى الآن من عشرات البلدات والقرى، ومن بينها الرقة لصالح الكُرد، والميادين والقريتين لصالح ميليشيات النظام السوري وحلفائه. وفي الأيام الأخيرة التي سبقت سقوط الرقة أو تحريرها، قال الأميركيون إنه ما عاد هناك غير نحو المائتين من «داعش» في المشفى الوطني ومحيطه. وهكذا فالثمانون ألفاً التي أحصاها الأميركيون انخفضت إلى 15 ألفاً بسوريا والعراق، ثم ما بقي منهم غير مئات قليلة على مشارف سقوط الموصل وتلعفر والرقة والميادين والقريتين... الخ. هل قُتل هؤلاء في المعارك؟ هذا أيضاً غير مؤكد. فحتى قتلاهم في الموصل والرقة، وهما مدينتان كبيرتان، لا يزيدون على الألفين. أما الخسائر الهائلة ففي المدنيين وفي العمران، ومعظم خسائر المدنيين كانت من الطيران بالموصل والرقة ودير الزور؛ وكذلك بالطبع تدمير العمران. وعائلات «داعش» التي تتعذب الآن في العراء والمخيمات من النساء والأطفال، لا تزيد أعداد أطفالها ونسائها على الألفين. فإما أن تكون الأعداد الهائلة أسطورة شارك «داعش» والإعلام الدولي في نشرها وتضخيمها، أو أنّ الأميركيين في العراق وسوريا نسّقوا عمليات ترحيل للأجانب عبر تركيا (!). والأرجح أنّ الأمرين حصلا. فالأعداد ما كانت بعشرات الألوف، ولو كانت كذلك ما كانت السيارات المفخخة سلاحاً رئيسياً. ومن جهة أُخرى فقد تواصلت الجهات الدولية والإقليمية والمحلية مع «داعش»، وقد كان بعضها يتاجر معه بالنفط والسِلَع الأُخرى. قال لي ضابط سابق في المخابرات التركية تقاعد عام 2015 إنه تحت وطأة الاتهامات الهائلة لتركيا من جانب الولايات المتحدة والروس، بوجود علاقات مع «داعش»، قطع الأتراك علاقتهم به، وأبوا أن يقطعوا علاقاتهم مع «النصرة» لفوائد ذلك للجميع. ثم في أواسط العام 2016 قيل لهم: لا بأس باستعادة بعض العلاقة في مسائل محددة، وعندما تواصلوا وجدوا أنّ الجميع قد فعلوا ذلك، وبخاصة الإيرانيون والروس والنظام السوري! وقد بدت اتصالات الإيرانيين الوثيقة بالتنظيم، في تمكنهم من عقد اتفاقية معه لسحب مسلحيه من لبنان أخيراً. وفي القريتين أيضاً فإنّ الدواعش كانوا مستعدين لتسليم البلدة إلى الحزب والإيرانيين، وهم قابعون من سنواتٍ بجوارها، لكنهم يشكون الآن أنّ ميليشيات النظام السوري دخلتها، وبدأت تنهب بيوت الناس وتُهجِّرهم!
سخر الأميركيون من اتهام الروس لهم بالقسْوة على العمران والإنسان في الرقة، وسألوهم عمّا فعلوه هم في نواحي حمص، وفي حلب التي دمّروها؛ وهي أكبر من الرقة بكثير، وما كان «داعش» موجوداً فيها. وعندما أُحرجوا بالأسئلة عما جرى لـ«داعش» بالرقة، وأين ذهب مقاتلوه، قالوا إن العشائر وإنّ مجلس الرقة المدني هم الذين تفاوضوا مع الدواعش لكي ينسْحبوا من المدينة وقُراها. لكنْ إلى أين؟ لا أحد يعرف، الأرجح أنّ الأجانب (وهم مئاتٌ وليسوا أُلوفاً) سُحبوا إلى داخل تركيا، وسُلِّموا إلى دولهم، أمّا الآخرون المحليون، فسُجن بعضهم للحاجة إلى معلوماتهم، وتُرك البعضُ الآخرُ من غير ذوي المنزلة، لمصيرهم!
هل يعني ذلك أنّ «ظاهرة داعش» صناعة من القوى الإقليمية والدولية، وقد استخدمتها ضد بعضها، وهي تحاول الآن الاتفاق على إبادتها؟ لا يبدو أنّ المطلوب والمسْعي إليه هو الإبادة، بل التجميد وإعادة الاستخدام إذا أتاحت الظروف والمنافسات ذلك. وهكذا حصل مع «القاعدة» قبل مقتل أسامة بن لادن وبعده.
أما مَنْ أنتج «داعش» فهو سؤالٌ مبرَّر أكثر من تسويغ السؤال حول «القاعدة». في «القاعدة» كانت هناك آلاف العناصر التي استخدمت في الحرب الأفغانية. وقد أُهملت بعد خروج الروس. ولذلك أمكن جمعها وتنظيمها، وأتاحت لها «طالبان» البيئة الملائمة. أما حالة «داعش» بين النظامين بسوريا والعراق، والإيرانيين والأتراك؛ فإنّ الوضع يختلف. «داعش» تغلب عليه الصناعة، وبخاصة في الجانب الإعلامي قبل القدرات العسكرية. ولذلك كما تركّب بسرعة؛ فإنه أمكن تفكيكه بسرعة. والذي أراه أنه وبخلاف «القاعدة»، لن تكون للتنظيم آثار أو استمرارية بصيغٍ أُخرى، رغم كثرة التهويل بذلك. والذي أراه أنه سيظل لهم نشاط إعلامي كبير، وسيظلون قادرين على إثارة بعض الأفراد، لكنهم لن يكونوا قادرين على تشكيل قوة قتالية معتبرة في أي مكان، وهو الأمر الذي قدرت عليه «القاعدة».
تستطيع تلك القوى جميعاً الآن الزعم أنها رابحة. أما الطرف الخاسر فهو الشعوب العربية في البلدان والعمران والإنسان. والخاسر هو الإسلام السني الذي ستظل الحملات عليه، وعلى معتنقيه، لسنواتٍ طويلة قادمة. فيا للعرب، ويا للإسلام!