حزب الله ينطلق من ثابتة أن مشروع الدولة القوية هو خطر وجودي عليه، حتى لو كان هو من يحكمها، وبالتالي يكشف المنهج الذي تسعى إيران إلى تعميمه في مناطق نفوذها
 

يقترح حزب الله على اللبنانيين أن يتدبروا أمورهم بعد تسليمهم مرغمين أو طائعين، بأنّه المقرر في شؤونهم الإستراتيجية، سواء في علاقات لبنان الخارجية، أو بالتسليم بأنّهم ضمن المحور الإيراني، وباستعدادهم لتقبل تقاطر رؤسائهم ووزرائهم إلى رئيس النظام السوري بشار الأسد في المرحلة المقبلة، فضلا عن تسليمهم بحق حزب الله أن يقرر وحده الحرب أو السلم مع إسرائيل، وقبل ذلك وبعده، يجب أن يسلموا أو يستسلموا لواقع أنّ الدولة اللبنانية هي صيغة نظام مشروطة ببقاء الدويلة التي تحيا على حساب الدولة، فيجب أن يسلم اللبنانيون أنّه خارج أيّ مساءلة أو محاسبة، فلا سلطة تعلو على سلطاته، لا سياسيا ولا قضائيا ولا عسكريا ولا أمنيا.

حزب الله يبتدع صيغة جديدة لا تستقيم في أي دولة ولا في أي نموذج للحكم. صيغة حكم يقوم جوهرها على عدم تحمل المسؤولية تجاه الدولة، وللتخفيف من أعبائها تجاه الشعب، أو تجاه الالتزامات الخارجية سواء كـانت اقتصادية أو سياسية، له الغنم، وعلى بقية اللبنانيين الغرم.

لهذا كان حزب الله بخلاف ما يعتقده بعض اللبنانيين أو غيرهم، غير راغب في تعديل صيغة النظام اللبناني بما يوفر له أو لطائفته حصصا إضافية في نظام المحاصصة الطائفية، وهو ليس من الغباء ليذهب نحو استلام السلطة بالشكل والمضمون، هو يريد السلطة لكن لا يريد تحمل المسؤولية، لذا كان وفيا لمدرسة الوصاية السورية التي عاشها لبنان بين العامين 1990 و2005 أي السيطرة على قرار السلطة من دون أن يخل شكلا بوجود مؤسسات ورؤساء ومسؤولين يتقدمون الواجهة، لكنهم بالفعل يلتزمون بمتطلبات سلطة الوصاية، والتي من أدوارها توزيع الحصص وإدارة الخلاف حول المكاسب والمناصب بين قوى السلطة الشكلية في لبنان.

يستخدم حزب الله القوة العسكرية والأمنية وسطوة السلاح، لفرض وصايته على لبنان، وربما قد يقبل اللبنانيون منه أن يحكم هو نفسه لبنان بمعنى أن تكون له كل مواقع السلطة، لكنه لن يقبل بذلك لأنه يرفض أن يتحمل أعباء الحكم بل هو يريد منافعه ولا يريد أن يتعرض لأي مساءلة دستورية أو قانونية أي أنه لا يريد تحمل مسؤولية حكم الدولة.

فمثلا هو يريد أن يقاتل في أي مكان في العالم، ويريد أن يستثمر موقعه في لبنان من أجل ذلك ودائما، من دون أن يكون مسؤولا عن تبعات خطواته، يتجاوز الدستور ونظام العلاقات بين الدول، ويفعل ما يشاء على هذا الصعيد، وهو يدرك أن الجميع سواء في لبنان أو في الخارج الإقليمي والدولي سيقدر أن الحكومة اللبنانية عاجزة عن لجمه أو محاسبته، فيما هذه الحكومة نفسها توفر الغطاء الفعلي له من خلال إظهار عجزها عن ذلك في الحد الأدنى.

ينطلق حزب الله من إستراتيجية إبقاء الدولة معلقة في لبنان، أي من ثابت يقوم على أن مشروع الدولة القوية هو خطر وجودي عليه، حتى لو كـان هو من يحكمها، وهو بالتالي يكشف المنهج الذي تسعى إيران إلى تعميمه في مناطق نفوذها، سواء في اليمن بين الدولة وأنصار الله، أو في العراق بين الحكومة والحشد الشعبي، وحتى في قطاع غزة الذي شهدنا فيه ملامح هذه الثنائية.

هذه الثنائيات التي تجمع بين منطق الدولة ولا منطق الدويلة، هو المشروع الذي تعدُ القيادة الإيرانية به شعوب المنطقة، وهو مشروع أقل ما يقال فيه أنه يوفر نفوذا إيرانيا بكلفة سياسية ومالية وعسكرية إيرانية مقبولة، ويجعل في الوقت نفسه الدول أمام استنزاف مستمر اقتصاديا واجتمـاعيا، فضـلا عن أنه عبـارة عـن مشروع قنابل عنقودية تتفجر عند أي خطوة نحو توحيد الشعب وتثبيت سيادة الدولة بكل ما يعنيه مفهوم السيادة للدولة من التزام بالعقد الاجتماعي بين الشعب والسلطة.

حزب الله يقترح على اللبنانيين هذه الصيغة بالقوة، ويدرك اللبنانيون عموما أن هذه الصيغة والتي وَرثت الوصاية السورية، باتت أكثر خطرا على لبنان، فهي في الحد الأدنى تساهم في المزيد من تصدع المؤسسات الدستورية والقانونية، وتجعل لبنان في مهب الصراعات الإقليمية والدولية، وهي صيغة تنطوي على أكثر من الفساد في إدارة شؤون الإدارة العامة ومؤسسات الدولة، إلى الإفساد الذي تقوم عليه معادلة الوصاية الجديدة، وجوهر الإفساد يقوم على معادلة مفادها أنّ رموز السلطة في لبنان يتحاصصون مع حزب الله وبإشرافه تمارس عملية نهب المال العام، في مقابل سكوتهم على كل انتهاكاته للسيادة ولعملية تخريب علاقات لبنان الخارجية.

في كل المواقف التي تصدر عن سياسيين أو متخصصين في المجـال المالي والاقتصادي، تسود فكرة مفادها أن لبنان يتجه نحو المزيد من الأزمات على هذا الصعيد، بسبب غياب السياسات المسؤولة من قبل السلطة، وهذه النتيجة تعود في أول أسباب تشكلها إلى غياب المرجعية التي تستطيع أن تقول للبنانيين أنا المسؤول عن إدارة شؤون الدولة، لا بل يستخدم محترفو استثمار السلطة لمصالحهم الحزبية أو الفئوية من المسؤولين، وبلا خجل، مقولة أنهم غير قادرين بسبب المعادلة التي يفرضها حزب الله وطبيعة وجوده، فيما هم أنفسهم لا يتوقفون عن ممارسة مواهبهم في الاستجابة السريعة لما يقترحه عليهم هذا الحزب نفسه في الدخول في لعبة المحاصصة والفساد.

جانب آخر لا بد من الإشارة إليه، يتصل بإغراء آخر وخطير يوفره الانخراط في عملية استنفار العصبيات المذهبية والطائفية، ذلك أنّ السلطة التي تستبيح الدستور والقانون كما المال العام، باتت تحترف في لبنان مواجهة غضب المواطنين من عملية إفقارهم وإهانتهم، بدفعهم للغرق في أفخاخ هذه العصبيات، ليفجروا غضبهم من السلطة في اتجاه يعزز من نفوذها، أي عبر نقل المواجهة من شعب ضد سلطة ظالمة، إلى صراع عصبيات في ما بينها غايته أن يغطي كل الخطايا التي ترتكبها السلطة بمختلف فرقائها.

إيران توغل في عملية إعادة تفكيك الدول العربية، وهو تفكيك يتلاءم ويوفر كل شروط السيطرة الخارجية على المنطقة، وهي إذ تدغدغ الأحلام المذهبية والطائفية والإثنية، فإنها تقترح على الدول الطامعة بالمنطقة العربية سواء كانت غربية أو شرقية أو حتى على إسرائيل، أنّها الشريك الملائم والموضوعي في عملية تقاسم النفوذ طوائف ومذاهب وإثنيات، فيما الدولة الوطنية والنظام الإقليمي العربي هما الهدف، والدفاع عنهما هو صلب أي مشروع مواجهة.