نقلت «رويترز» عن أستاذ جامعي كردي قوله: «نشعر بأننا منكسرون. كان ينبغي أن تفكر قيادتنا الكردية في العواقب قبل المضيّ قدماً في التصويت على الاستقلال. الآن خسرنا كل ما حققناه على مدى ثلاثة عقود». لكن الأستاذ وغيره من الأكراد وأصدقائهم في العالم كانوا تلقوا نتيجة الاستفتاء بفرح، على الأقل لتكريس ما هو قائم، أي تأكيد الأكراد قوميتهم، ويمكن اعتبار التصويت على الاستقلال رسالة مشتركة إلى العالم باسم أكراد العراق وتركيا وإيران وسورية، وربما باسم ذوي الأصول الكردية في المنطقة العربية. قال صديقي الكردي مازحاً: لو أتيح لأحمد شوقي وعباس محمود العقاد التصويت بعد الموت لأعلنا قوميتهما الكردية على الملأ.
وإذ تبدو منطقية وشرعية استعادة الجيش العراقي مناطق استولت عليها البيشمركة مستغلة الاحتلال الأميركي واستيلاء «داعش» على غالبية شمال العراق، فإن العودة إلى حدود إقليم كردستان الأساسية تصحّح خطأ، لكنها لا تنفي عمق إحساس الأكراد بقوميتهم، ولا تعني أن الاستفتاء مجرد ضوء وانطفأ أو شعلة وجرى إخمادها.
استعادة «المناطق المتنازع عليها» جرت من دون قتال، وانسحبت البيشمركة تماماً كما انسحب الجيش العراقي في الموصل لمصلحة «داعش»، ولم نسمع عن محاكم للجنرالات المتخاذلين، لذلك ستنجو قيادات البيشمركة من دون أن تعلن تسويغ فعلتها: لقد عادت تلك المناطق إلى أصحابها الحقيقيين. والآن، مع تجاوز التصريحات الانفعالية من الجانبين الكردي والعربي، يمكن أن يبدأ الحوار انطلاقاً من الدستور وفي رعاية رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي برهن أنه رجل دولة رصين وليس مجرد قيادي في حزب الدعوة الشيعي. كما سيبدأ الحوار انطلاقاً من تهميش دور الرعاع الفوضويين العرب والأكراد الذين يعيشون على وقع الكراهية والنكايات. ولا بد في مجال الحوار من بيان حقيقة عودة المناطق المسيحية إلى كنف السلطة المركزية بعدما كانت جزءاً واسعاً من مناطق احتلتها البيشمركة بعد عام 2003.
رئيسا الوزراء والبرلمان في الجانب العربي سيحاوران من خلال الدستور ممثليَن عن الإقليم الكردي هما على الأرجح نيجيرفان بارزاني وبافيل طالباني. لقد استعادت معادلة أربيل – السليمانية وجودها وسيسعى ممثلوها إلى الحفاظ على إنجازات حظي بها الإقليم نتيجة استقراره والدعم الأميركي الفرنسي التركي الإيراني في فترة الحروب الداخلية التي ابتلي بها سنّة العراق وشيعته، أي العرب إجمالاً.
ليس من مصلحة الحكومة المركزية التسبب بتراجع اقتصادي وسياسي واجتماعي في كردستان العراق، إنما توظيف نهضة الأكراد كقاعدة لنهضة مواطنيهم العرب في الوسط والغرب والجنوب. وبالتضامن العربي – الكردي في إطار الوطنية العراقية يمكن عقد تفاهمات ندية مع إيران وتركيا والحدّ من وصايتهما على جماعات عراقية. تفاهمات بين دولة ودولة وليس استعانة بهذه الدولة على تلك، كترجمة لصراع قوى داخلية خاضعة للوصاية من خارج الحدود. وفي سياق الكلام الانفعالي لمسعود بارزاني وردت مقاطع رصينة تحذّر من حرب داخلية بين الأكراد. هذا ما نتوقع أن تتنبّه له قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني متجاوزة تهمة «الخيانة»، وذلك في سياق استعادة التعاون بين الحزبين الكرديين الرئيسيين مع سائر التشكيلات السياسية والشخصيات البارزة في الإقليم. وإنجاز هذا الأمر مطلوب بسرعة ليبدأ الحوار العربي – الكردي وينجح. وهنا لا بد من التأكيد مجدداً على أهمية الحفاظ على الشعلة القومية الكردية التي عبّر عنها الاستفتاء، فهذه الشعلة ستوقد مثيلتها لدى العرب ولدى الآشوريين والسريان والكلدان أيضاً، وصولاً إلى كيانات ثقافية عراقية صغيرة عمل «داعش» على إفنائها ولم يكتمل نجاح عمله وإن ترك آلاف القتلى والسبايا.
كم يبدو عرب العراق الذين أكلتهم الطائفية أكلاً في حاجة إلى القومية الكردية لاستنهاض قوميتهم العربية، هذه المرة على قاعدة الانفتاح والتكامل وليس على قاعدة الاستعلاء والكراهية كما كان الأمر في حكم البعث المنطوي.
وطنٌ بقوميتين، بل بقوميات صغيرة أيضاً غير منكسرة، هو العراق المرتجى وفق الدستور الذي يحترم السلطات المحلية وتحترمه فلا تهرب نحو الانفصال.