واجهت العملية العسكرية التركية التي بدأت منذ أيام في اتّجاه دخول إدلب، أسئلةً عن غاياتها الأساسية وعن طبيعة الغطاء السياسي الذي يحميها
 

من حيث المبدأ، ووفقاً لوقائع بيانات «أستانا 6»، تُعتبر هذه العملية، تنفيذاً للمهمة التركية ضمن الاتفاق الذي أبرمته أنقرة وموسكو وطهران في «أستانا 6»، والذي ينصّ على مبدأ إنشاء منطقة رابعة لخفض التوتر في محافظة إدلب تضمن تطبيقاتها إيران، تركيا وروسيا... ولكنّ دمشق اعتبرت العملية التركية الجارية حالياً في اتّجاه إدلب، احتلالاً، ونفت أنها جزءٌ من تنفيذ تفاهم «أستانا 6».

واللافت في هذا المجال، أنّ كلّاً من إيران وموسكو الضامنتين، الى جانب تركيا، منطقة خفض التوتر الرابعة، لم يصدر عنهما أيّ تعليق ينفي الكلامَ السوري أو يؤكّده.

وتشي هذه المواقف، أنّ التفاهم حول منطقة خفض التوتر في إدلب الموقّع في «أستانا 6» لم يكن سوى «تفاهماً أوّلياً» بين الدول الثلاث حول بدء إطلاق مسار إنشائها، من دون الاتفاق على أهدافها النهائية أو حتى المتوسطة.

وبمجرد مضي 72 ساعة على بدء التحرّك العسكري التركي لإنشاء منطقة خفض التوتر الرابعة، بدا واضحاً الافتراق بين أولويّات الدول الثلاث الضامنة لها. فتركيا تعطي أولويّة في تحرّكها ضمن اتّفاق خفض التوتر، لمعالجة هواجسها في «عفرين» وتنظيم «ب. ي. د» فيها، وليس لإدلب ووجود «جبهة النصرة» فيها.

أما أولويّة موسكو الحاسمة فهي ضرب «هيئة تحرير الشام» (اي «جبهة النصرة»)، ومنع محاولة تجميع جيش من المعارضة المعتدلة في إدلب يكون بديلاً للجيش السوري.

وخلال اجتماع «أستانا 6» هدّد رئيس الوفد الروسي بأنّ بلده لن يسمحَ بتجميع جيش من المعارضة المعتدلة في إدلب يقاتل النظام، وكان بذلك يؤشّر الى مشروع تداولته أنقرة سرّاً مع فصائل في شمال سوريا، يرى أنه يمكن استغلال دخول تركيا بغطاء إيراني وروسي الى المنطقة ضمن تسوية إرساء خفض توتّر فيها، لإنشاء جيش موحَّد للمعارضة بقيادة اللواء المنشقّ محمد الحاج علي وعضوية هيئة أركان مؤلّفة من نحو 40 ضابطاً سابقاً في الجيش السوري، معظمهم يقيم في تركيا.

أما إيران فتقع أجندتها بين تناغمها مع تركيا في مواجهة الخطر الكردي وبين تناغمها مع روسيا لمنع تجميع المعارضة في شمال سوريا، وتقديمها كوَريث معتدل لـ«النصرة» وللنظام في تلك المنطقة.

وأبرز ما ترمي اليه تركيا هو تدشين مسار يسمح لها بمقايضة كل خطوة تقوم بها داخل منطقة خفض التوتر الرابعة بإنتزاع مطالب لها على صلة بأمنها القومي من «شقيقتيها» الضامنتَين، وبالتالي تحويل «منطقة خفض التوتر الرابعة» منصّة مقايضات، بعيداً من الولايات المتحدة الأميركية الداعمة للكرد، يتمّ في إطارها تبادلُ المصالح الإستراتيجية بينها وبين إيران وروسيا في شمال سوريا.

وهو امتياز لم تسمح لها واشنطن بممارسته انطلاقاً من نافذة مشاركتها في القضاء على «داعش» في شرق سوريا، ولا في شمال سوريا حينما منعت وصول قواتها ضمن «درع الفرات» الى مدينة منبج، وكانت موسكو حرمتها من هذا الإمتياز نفسه حينما منعت عملية «درع الفرات» من الوصول الى عفرين التي توجد فيها قوات الـ«ب. ي. د» بحماية القوات الروسية.

وأبرز ما تريده تركيا من دورها في منطقة خفض التوتر الرابعة، هو استغلال الغطاء الروسي والإيراني لها، لمصلحة تمكّنها من استكمال عملية «درع الفرات» التي لم تنجح قبل عام في تحقيق هدفها الأساس، وهو طرد الـ«ب. ي. د» من منبج وعفرين وسبع قرى في محيط الاخيرة، الأمر الذي كان سيؤدّي الى ضمان ضرب مكوّنات إنشاء المنطقة الكردية ومنع ربط أواصره الجغرافية.

آنذاك أدّى اعتراضُ موسكو وواشنطن الميداني الى حرمان تركيا من الوصول الى هذه المناطق، ما اضطرها بعد فترة الى إطلاق عملية أخرى بديلة سمّتها «سيف الفرات» التي فشلت للأسباب السابقة نفسها.

وأخطر الاستنتاجات التي وصلت لتركيا وايضاً «لشقيقتيها الضامنتين» منذ اللحظة الأولى للبدء في إنشاء منطقة خفض التوتر الرابعة، هو أنّ كلّ طرف يحاول إجراء اختبار نيّات مبكر للآخر. وتمثل الإختبار الأوّل لتركيا بتعرّض طلائع قواتها المتقدّمة نحو الداخل السوري لصاروخ «آر.بي. جي» أطلقه مسلّح من «جبهة النصرة».

وتصرّفت الإستخبارات التركية مع هذا الحادث بصفته مكمناً سياسياً لها، هدفه جعل عمليّتها العسكرية محكومة منذ بدايتها بصدامٍ مسلّح مع «هيئة تحرير الشام»، وهو أمرٌ تُحاذره أنقرة، وتريده موسكو بقوة.

وردّت تركيا على هذه الواقعة بإتصالات عاجلة أسفرت عن اجتماعٍ عُقد في بلدة «دارة عزة» بين الإستخبارات التركية و«هيئة تحرير الشام» تحت حماية الأخيرة التي لم تبادر الى توسيع الاشتباك بل إعتقلت عنصرها المصري الجنسيّة الذي أطلق القذيفة الصاروخية على القوة التركية.

لم تتسرّب معلوماتٌ عمّا دار في هذا الإجتماع، لكنّ مصادرَ مطّلعة قالت لـ«الجمهورية» إنه على الأرجح أسفر عن اتفاقٍ بين الطرفين على عدم مواجهة «النصرة» للجيش التركي عند دخوله إدلب، لأنّ في ذلك فوائد للطرفين، فمِن جهة يصبح في الإمكان تحييد الطيران الروسي لأنه سيفقد ذريعة تنفيذ غارات جوّية في منطقة إدلب بحجّة مقاومة إعتراض «النصرة» على إنشاء منطقة خفض التوتر الرابعة فيها، ما يحول دون تعريض إدلب للتدمير كما حدث في الرقة ودير الزور، وسيفتح من جهة ثانية الباب أمام تسوية لعناصر «النصرة» تُنجزها تركيا لاحقاً بالاتفاق معها وذلك بعد استتباب سيطرة أنقرة على إدلب - المدينة وعلى شريط حدودي بعمق 40 كلم داخل سوريا، سيكون من أهدافه حرمان الأكراد من خلق تواصل بين كانتونيهما في «عين العرب» و«تل أبيض»، ويحول ايضاً دون قدرتهما على فتح ممرّ بَرّي لمشروع كانتونهم على البحر المتوسط.

وكان لافتاً أنّ لقاء دار عزة بين المخابرات التركية و«النصرة»، تلاه بعد أيام قيام عناصر من «هيئة تحرير الشام» بمرافقة قوات استطلاع تركية عسكرية الى جبل عيسى المطلّ على عفرين حيث معقل الـ«ب. ي. د» المجاور لخط انتشار الأتراك في منطقة إدلب.

ودلّت هذه الخطوة على أنّ لقاءَ «دار عزة» كان له إستتباعٌ عمَلي ما يؤشر الى أنه أفضى الى اتّفاقٍ على تسوية بين الطرفين على مستقبل منطقة خفض التوتر في إدلب.