ماذا يبقى من «الوفاق السياسي» و«التسوية الرئاسية» و«سياسة النأي بالنفس» في حال استمرار التفرّد بالقرارات والمواقف من قبل فريق سياسي، يحاول الهيمنة على السلطة، وإخضاع الدولة لحساباته الحزبية، ومصالحه الفئوية؟

أهم شروط نجاح «صفقة الوفاق»، هو التقيّد بما تمّ التوافق عليه، خاصة بين تيّار المستقبل والتيار الوطني الحر، والالتزام بقواعد الشراكة الحقيقية في السلطة، وعدم الاستقواء بمركز الرئاسة الأولى، للجنوح في المواقف الرسمية، بعيداً عمّا التزم به رئيس الجمهورية في خطاب القسم.

الوزير جبران باسيل يتصرّف تحت مظلة الوفاق، وكأنه الوزير الأقوى والأول بين الوزراء، ويفاجئ الحكومة، رئيساً ووزراء، بتصرفات وخطوات تتناقض مع البيان الوزاري، من دون أن يكلف نفسه عناء التشاور مع رئيس مجلس الوزراء.

اللقاء المفاجئ مع وزير الخارجية السوري وليد المعلم، كان أول صدمة من العيار الثقيل لتفرّد الوزير بتصرفات تصيب تداعياتها «الوفاق السياسي» بتصدعات تترك آثاراً مؤلمة على التضامن الحكومي.

موقف رئيس الحكومة الرافض علناً لهذا اللقاء، لم يردع الوزير الباسل عن تكرار التجربة، معتبراً نفسه صاحب صلاحية في تقرير السياسة الخارجية للبنان، بمعزل عن خطاب القسم وعن البيان الوزاري، وحتى من دون التشاور مع رئيس الحكومة!

وجاء تصويت لبنان إلى جانب المرشح القطري، ضد المرشحة المصرية لمنصب المدير العام للأونيسكو، ليكشف مدى الإصرار الباسيلي على المضي قدماً بسياسة التفرّد بالقرار، ولو أدى ذلك إلى زج لبنان في دوّامة صراع المحاور المحتدم في المنطقة.

الوزير نهاد المشنوق تصدى بصراحة لا تخلو من الشجاعة «لشرود السياسة الخارجية»، مؤكداً أنه لا يمكن الاستمرار في سياسة «الصدمة والإلزام والإرغام»، مشيراً إلى القدرة على الرد بقوة على هذه السياسة، وسيكون الرد قريباً.

كلام وزير الداخلية يعني بوضوح أن الكيل قد طفح، ومرحلة السكوت والتغاضي انتهت، ودقت ساعة الرد، لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، عل ذلك يُساعد على وقف الاهتزازات المستمرة للتضامن الحكومي، وعلى تجنّب سقوط التسوية، وتجنيب البلد ما قد يجرّه سقوطها من ويلات اقتصادية واجتماعية، لا قدرة لأحد على تحملها.

الواقع أن سياسة المهادنة والتسامح، وما تعنيه من حرص على إنجاح تجربة التوافق، من جانب رئيس الحكومة، اعتبرها رئيس التيار الوطني الحر بمثابة «مسايرة مستمرة» لمواقفه المتناقضة مع التسوية ومع التفاهمات مع الرئيس الحريري، الأمر الذي تسبب للأخير بإحراجات في أوساط قاعدته الشعبية، تجاهل باسيل انعكاساتها السلبية على التضامن الحكومي.

وتبقى المفارقة أنه في الوقت الذي يفترض فيه بفريق رئيس الجمهورية، وفي مقدمتهم الوزير باسيل، الحرص على الحفاظ على التسوية الرئاسية، وحمايتها من أي اهتزاز، حرصاً على مسيرة العهد ومصداقيته، وفعالية تفاهماته السياسية مع الأطراف الأخرى، يبدو هذا الفريق بالذات، في موقع المتجاوز لروح وبنود تلك التفاهمات، من خلال الإيحاء لقواعده الانتخابية بأنه الفريق الأقوى، ليس في المساحة المسيحية وحسب، بل وعلى امتداد الساحة اللبنانية!

ولكن التجارب اللبنانية المريرة علمت اللبنانيين أن لا أحد يستطيع أن يتفرّد بالقرار في بلد يقوم على التسويات، ولا أحد يستطيع أن يلغي الآخر، ولا حتى أن يتجاوزه، في بلد يعتمد استقراره السياسي والأمني على سلامة المعادلات الداخلية، وتوازناتها الطائفية والوطنية الدقيقة!

فهل ثمة من يتجرّأ على مغامرة جديدة؟