تعرف واشنطن أن الحرس الثوري هو أداة المرشد والنظام برمته في التمدد إلى خارج الحدود وتخصيب الميليشيات والخلايا في اليمن والبحرين والكويت والسعودية والعراق وسوريا ولبنان
 

لم يكن يخفى على العواصم الكبرى أن البرنامج النووي الإيراني يهدف بالنهاية إلى إنتاج قنبلة نووية إيرانية. ولم تكن طهران، رغم نفيها الرسمي وتأكيد فتاوى مرشديها أن القنبلة في شرع الله حرام، تواري نزوعها النووي العسكري تحت مسوغ حماية نظام ولاية الفقيه.

سرّبت إيران من خلال القنوات الخلفية في تواصلها مع الغرب في العقود الماضية أن تخلي المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة عن برامج زعزعة نظام الجمهورية الإسلامية كفيل بوقف طهران مسارا قديما لإنتاج قنبلة نووية.

بدا واضحا في ما بعد أن العواصم الغربية لا يمكنها إعطاء تعهد لنظام مسؤول عن استهداف مصالحها في الشرق الأوسط والعالم بإدراجه تحت مظلتها والالتزام بحمايته، كما بدا أيضا أن إيران نفسها لن تثق بأي وعود محتملة تصدر عن “الشياطين” الكبرى والصغرى لمداراة إمبراطورية المرشد وعقيدة حكمه.

قد تكون أهم الثمار التي قطفتها إيران من خلال الاتفاق النووي مع مجموعة خمسة زائد واحد في يوليو 2015، لا تكمن في ما ينتجه من مزايا اقتصادية مقابل تأجيل (وليس إلغاء) طموحاتها النووية العسكرية، بل في اعتراف المجتمع الدولي بالنظام الإيراني كما أراده روح الله الخميني وكما يحافظ عليه علي خامنئي، وفي اعتماده شريكا كاملا يقبل العالم أمره الواقع. وعليه حققت طهران ما تريده من وراء إطلاق برنامجها النووي العسكري، وهو ضمان أمن النظام.

ما يصدر عن واشنطن هذه الأيام يطيح على نحو انقلابي بالروحية التي قادت إلى إبرام الاتفاق النووي الشهير مع إيران. تتطابق الولايات المتحدة مع النظرة التي قاربت بها دول الخليج ذلك الاتفاق. لم تقلق تلك الدول من سلاح نووي لم يجر استخدامه منذ هيروشيما وناكازاكي (أغسطس 1945) في الحرب العالمية الثانية، لكنها كررت قلقها من نظام يعمل من خلال شبكاته في المنطقة كما من خلال تسلّح غير نووي، لا سيما ذلك الصاروخي الباليستي، على تقويض استقرار العالم العربي وتهديد أمن بلدانه.

أن يذهب الرئيس الأميركي إلى عدم المصادقة على التزام إيران بالاتفاق النووي، فذلك يعني أن الولايات المتحدة تهوّل بسحب اعترافها بالنظام الإيراني شريكاً دوليا يجوز معه الذهاب بعيدا في التطبيع السياسي والاقتصادي والأمني والمالي.

وأن يطلق دونالد ترامب يد الكونغرس، بناء على موقفه من الاتفاق، في فرض باقات متعاقبة من العقوبات ضد إيران، يعني أن إيران ستبقى على هامش المجتمع الدولي، وأن إصرار الشركاء الخمسة الآخرين في مجموعة 5+1 على الالتزام بالاتفاق مع إيران، لن يكون كافياً لإعادة العجلة الاقتصادية الإيرانية إلى قلب السياق الاقتصادي الدولي.

لكن الأدهى والأخطر في “الانقلاب” الأميركي على “اتفاق أوباما” الإيراني، يكمن في ذلك الذي يستهدف الحرس الثوري الإيراني، والذي أثار ردود فعل إيرانية حادة ومهددة وعنيفة لا سابق لها في تاريخ العلاقات الإيرانية الأميركية.

تعرف واشنطن، بدقة، حكاية الحرس الثوري وحيثيات ولادته في أعقاب الثورة التي أطاحت بحكم الشاه في إيران عام 1979. تعرف واشنطن أن الخميني أنشأ الحرس وجعله القوة الأساسية المدافعة عن أمن نظام الجمهورية الإسلامية، ذلك أن الجيش الإيراني لم يكن في ذلك الزمن مصدر ثقة للدفاع عن نظام المرشد في طهران.

تعرف واشنطن أن الحرس الثوري هو أداة المرشد والنظام برمته في التمدد إلى خارج الحدود وتخصيب الميليشيات والخلايا في اليمن والبحرين والكويت والسعودية والعراق وسوريا ولبنان، وهو ساعد إيران الضارب (لا سيما فيلق القدس التابع له بقيادة اللواء قاسم سليماني) المسؤول عن عمليات التفجير التي استهدفت عواصم أوروبية، كما تلك التي استهدفت جنودا أميركيين وفرنسيين في لبنان، كما تلك التي خطفت رهائن غربيين في لبنان أيضا في ثمانينات القرن الماضي.

اعتبر العالم منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران أن العمليات التي ترتكبها جماعات ومنظمات تابعة للحرس الثوري في الخارج هي عمليات إرهابية. ومع ذلك لم يخطر على بال أي عاصمة وضع الحرس الثوري الإيراني على لوائح الإرهاب، ذلك أن في ذلك الإجراء ما يشبه إعلان حرب على نظام إيران، وهو أمر يكشف عنه رد فعل طهران وتهديدها بالرد “الساحق” ونُصح واشنطن بإبعاد قواعدها عن مرمى النيران الإيرانية، ناهيك عن الذهاب إلى الوعد بمعاملة إيران للولايات المتحدة معاملتها لتنظيم داعش.

تشير صورة الفرح والسعادة التي جمعت قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء محمد علي جعفري بوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى أن طهران تريد الظهور بصفتها واحدا يجمع البراغماتية الإيرانية التي يمثلها فريق الرئيس حسن روحاني، والحزم الذي يمثله فريق المرشد علي خامنئي.

تود طهران تأكيد أن النيل من الحرس الثوري ليس نيلا من التيار المتشدد في إيران، بل نيل من الدولة برمتها بكافة تياراتها. لكن تأملا أعمق بصورة ظريف-جعفري يكشف التفوّق الذي يمتلكه الحرس في قيادة شؤون البلد وفي فرض رؤاه على روحاني الذي تجرأ قبل مدة على انتقاد هيمنة الحرس على مقاليد البلاد.


قد يجوز أيضا تصديق أن تسليط المجهر الأميركي على الحرس الإيراني يربك كل الطبقة السياسية الإيرانية لما للحرس من نفوذ داخل منابر الحكم ومن سطوة على العملية الاقتصادية في البلاد. سبق للحرس أن أوصل أحد قادته، محمود أحمدي نجاد، إلى رئاسة الجمهورية وتولى قمع من اعترض على انتخابه مرة أخرى عام 2009.

وينتشر رجال “الحرس” في مناصب الدولة العليا، وربما أبرزهم هذه الأيام علي لاريجاني رئيس البرلمان. لكن السطوة الأقوى والأخبث للحرس هي داخل الاقتصاد الإيراني، بحيث أنه يسيطر على قطاعات كبرى، أهمها الاتصالات والطاقة والتمويل، فيما تهيمن مجموعة “خاتم الأنبياء” الشهيرة التابعة للحرس على قطاع العقارات وأعمال البناء.

وفيما أن التقديرات تذكر أن الحرس يسيطر على نسبة تتراوح ما بين 25 و40 بالمئة من اقتصاد البلاد، فإن تقديرات أخرى تتحدث عن نسب أعلى بحكم عدم إحاطة أجهزة الدولة بالمعلومات الدقيقة حول أنشطة الحرس الاقتصادية.

تضيف حكومة حسن روحاني 300 مليون دولار إلى ميزانية الحرس لهذا العام، في وقت يتوقع فيه أن ترتفع ميزانية الحرس إلى 7 مليارات دولار في عام 2018. بمعنى آخر، ورغم الإنجازات التي يحققها “المعتدلون” في الانتخابات، فإن هامش المناورة المتاح لفريق روحاني لا يمسّ بمحرم الحرس وقواعد التعامل معه، بصفته درع النظام السياسي برمته.

قد لا تكون “التقارير” الأميركية المسرّبة عن رفع مستوى ضغوط ترامب على إيران إلا سبيلا لبسط طاولة مفاوضات جديدة تطال برنامج الصواريخ الباليستية في هذا البلد. قيل إن ظريف لمّح في لقاءاته على هامش اجتماع الأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر الماضي بإمكانات التفاوض على الأمر، بيد أن واشنطن تحتاج إلى دفع إيران للتسليم بقبول تحييد خطرها على العالم سواء كان صاروخيا أو نوويا أو إرهابيا.

في رفع مستوى العقوبات التي فرضتها الإدارة الأميركية منذ عهد الرئيس السابق باراك أوباما على حزب الله في لبنان، وفي تصديق الكونغرس مؤخرا على وجبة عقوبات جديدة ضد هذا الحزب، ما كان يفهم منه في السابق مكافحة أميركية لامتدادات إيران في الخارج، دون أن يتناقض ذلك مع الاتفاقات الدولية الجارية مع إيران.

لكن إذا ما انتقلت واشنطن إلى طور آخر من العقوبات يستهدف الحرس الثوري هذه المرة، أي الكيان المركزي الإيراني الراعي لميليشيات طهران في الخارج، إلى درجة معاملته معاملة الكيانات الإرهابية، فهذا يعني أن استهداف ميليشيات الخارج بات يحتاج إلى ضرب امتدادات هذه الميليشيات داخل إيران. أمر كهذا يعني أيضا تقويض خطط طهران في ميادين نشاط الحرس في الخارج، لا سيما في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. فهل باتت واشنطن جاهزة للدفع بتحوّلات كبرى داخل تلك الملفات الخلافية الكبرى؟ سؤال يستحق تأمل الساعات المقبلة لهذا السجال بين واشنطن وطهران.