كلّ ما كان يقال، تحديداً قبل انتفاضات «الربيع العربي» وثوراته، وكلّ السيناريوات المنذرة بمستقبل صعب وغامض للعالم العربي، بات اليوم أمام الأنظار وعلى طاولات المساومة دولياً وإقليمياً. والأدلة بالغة الوضوح: فالجميع يذكر اليوم روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا وإسرائيل لدى الحديث عن سورية، من دون ذكر سورية لا نظاماً ولا معارضة. كذلك بالنسبة إلى العراق حيث تصبّ التساؤلات على إيران والولايات المتحدة، على رغم عودة خجولة للبُعد العربي كما لو أنه عنصرٌ دخيل. وكان يُفترض أن تعني «حرب اليمن» فرصةً نموذجية للسير في الطريق الصحيح عربياً، دفاعاً عن الشرعية وتصدّياً للاختراقات الإيرانية، غير أن لعبة المصالح الخارجية والموقف الأميركي الملتبس ساهما في إطالة الحرب وتغذية الانقسامات العربية. ولدى الحديث عن ليبيا تبرز أيضاً استقطابات خارجية مبنيةً على التشرذم الداخلي ومستفيدةً منه، أكثر مما تسعى فعلاً، كما تقول علناً، إلى وفاق وسلام واستقرار.
لا يختلف الأمر إلا في التفاصيل بالنسبة إلى دول التماس على تخوم البؤر العربية الساخنة. إذ إن لعبة الأمم تستمرّ شيئاً فشيئاً في إفقادها صفة المناطق العازلة والمسالمة لتثبّتها ساحات مواجهة غير مباشرة أو بالوكالة. فلبنان يتلاشى تدريجاً في القبضة الإيرانية التي تتولّى أداتها المحلية «حزب الله» تغيير نظامه بالترهيب المنهجي. وتونس تجهد للنأي عن تعقيدات الصراع الليبي ومخرجاته الإرهابية، التي باتت أهم العقبات أمام إنهاض اقتصادها. أما الكويت والبحرين والأردن فتعاني قلقاً من أخطار ما يدور في محيطها ومن انعكاساته على استقرارها الداخلي. ولعل تفجّر الأزمة الخليجية مع قطر شكّل نتيجة تلقائية للتدخّلات في وضع عربي مضطرب ومشوّش ويُراد اختزاله أميركياً وروسياً بمكافحة الارهاب وتنازع الأدوار والمصالح، أو بالتعامل مع العالم العربي كـ «رجل مريض» ينبغي فرض وصاية الدول الاقليمية الثلاث عليه.
منتصف العقد الماضي أحدث الغزو الأميركي للعراق اختلالات في المنطقة العربية، سواء بإتاحته نفوذاً لإيران في بغداد أو بمنحه مكسباً استراتيجياً لإسرائيل أو بتوفيره فرصاً للحكم الجديد في تركيا. وبذلك بدأت التوقّعات المسبقة تتحقّق بسعي الدول الثلاث إلى ملء الفراغ العربي في الفضاء الإقليمي. وعلى رغم أن أنظمة عربية عدّة كانت تخفي وراء مظاهر قوّتها عبوات سياسية واجتماعية موقوتة، فإنه لم يكن متصوّراً وقتذاك أن تلك الاختلالات يمكن أن تؤدّي إلى ما عُرف بـ «الربيع العربي»، وأن تضع مصير دول وشعوب ومجتمعات في اختبارات الانهيار والتفكّك. بل إن احتمالات تصاعد الوباء الإرهابي ظلّت لوهلة محصورة أو تحت السيطرة، إلى أن مدّتها الفوضى المستشرية بفاعليةٍ وانتشارٍ يوازيان أسوأ الأسلحة فتكاً بيولوجياً أو نووياً.
مع الاقتراب من إضعاف هذا الوباء الإرهابي واحتوائه إلى حين، تعود القوى الخارجية المعنيّة إلى أصول الأزمات، فإذا بإنهاء الصراعات الداخلية في سورية والعراق واليمن، وكذلك في لبنان والبحرين، وحتى في فلسطين، لا بدّ أن يمرّ بتحجيم التدخّلات الإيرانية وبترويض الطموحات التركية، وفقاً للجانب الأميركي الذي يتغاضى عن ضرورة لجم الأطماع الاسرائيلية أيضاً، وإذ يشاركه الجانب الروسي هذا التغاضي فإنه يحاول ادارة التنافر بين إيران وإسرائيل وتركيا عبر تحديد المكاسب وتوزيعها عليها. أي أنه لا بدّ للسوريين والعراقيين واليمنيين، في مخيمات النزوح أو في مدن الدمار، من تحمّل المزيد من الأعباء في انتظار توافقات صعبة بين الدولتين الكبريين وتنافس محموم بين الدول الثلاث. ومع أن الدول المتدخّلة مدركة خطأ إقصاء البُعد العربي، إلا أن انخراطها في سباق المصالح يدفعها الى تجاهله، وذريعتها أن العرب غيّبوا أنفسهم أو وقفوا إلى جانب المهزومين. فالأميركيون تحالفوا مع الأكراد ضد «داعش» في سورية، وتعايشوا مع «الحشد» الإيراني في العراق ومالأوا الحوثيين في اليمن استرضاءً للمفاوض النووي الإيراني آنذاك. أما الروس فتحالفوا مع إيران ونظام بشار الأسد ويعزّزون نفوذاً في سورية يمكّنهم لاحقاً من الإمساك بمعظم أوراق المنطقة.
يعتبر العرب أن لديهم موقفاً مبدئياً معلناً من مسائل التقسيم أو الانفصال كما ظهر في كثير من بيانات القمم العربية وغيرها، مشدّداً على سيادة الدول ووحدة أراضيها، بل إن الجامعة العربية وعواصم عدة جدّدت تأكيد هذا الموقف إزاء استفتاء إقليم كردستان العراق على استقلاله، من دون أن تنظر في رفض دمشق وبغداد لنتائجه أو في تداعياته المحتملة على دول عربية أخرى، خصوصاً أن لدى العرب تجربة حديثة في انفصال جنوب السودان. ولم يُعرف بوضوح إذا كان «هدوء» الموقف العربي يعكس عجزاً أو انقساماً أو قبولاً للأمر الواقع أو عدم وجود «مرجعية» تحدّد المصلحة العربية. الأرجح أنها كل ذلك، ويُضاف أيضاً تراجع المدّ القومي وارتباك المدّ الإسلامي وصعود الشحن المذهبي والجهوي. ولا يمكن أن يُعزى «هدوء» الموقف إلى «مراجعةٍ» عربيةٍ ما للعلاقة مع الأكراد قد تكون حصلت عفوياً أو تلقائياً وقضت بالاعتراف للأكراد بحقهم في أن تكون لهم دولة مستقلة.
ففي ظروف أخرى كان ردّ الفعل العربي ليكون أقرب الى موقفَي تركيا وإيران اللتين تتخذان من الاستفتاء الكردي عنواناً لتقاربهما، بل لدقّ طبول الحرب تحسّباً لإعلان استقلال كردستان. وفي لقاءات طهران قبل اسبوع صوّبت الدولتان على الدور الاسرائيلي في «مؤامرة» الاستفتاء الكردي، وأطلقتا اشارات الى تأسيس محور مع العراق والنظام السوري. كان ذلك رسالة موجهة إلى واشنطن وموسكو، مفادها أن ضمانهما للأكراد يشجّعهم على الانفصال ويزعزع جغرافية دولتيهما. فالأولى تبدو متبنّية قضية الأكراد و «دولتهم» أو حتى «دولهم» ولم يعبّر موقفها العلني ضد الاستفتاء سوى عن استياء من توقيته الخاطئ ومن إرباكه للدور الأميركي الحالي في العراق سواء في الحرب على «داعش» أو المواجهة مع إيران. أما موسكو فظلت دائمة الحرص على علاقة متقدمة مع الأكراد ولديها أوراق تلعبها بصمت وإن لم تتحالف معهم أو تتظاهر، كما قال الرئيس الروسي، بأنها لا تتدخّل في المسألة الكردية، خصوصاً أنها تعوّل حالياً على تعاون إيراني وتركي معها في سورية.
لكن تركيز الرسالة التركية- الإيرانية على دور لاسرائيل في الاستفتاء الكردي يُظهر أيضاً غضب الدولتين، كلٌّ من زاويتها ولأسبابها، على سوء التوزيع الأميركي- الروسي للوظائف والأدوار والمكاسب في المنطقة العربية، وتمييزه لمصلحة إسرائيل. مع ذلك يبقى الغائب هو الموقف العربي، وهو يستدعي تساؤلات، منها: هل الصراع مع إيران وتركيا كافٍ لتشكيل سياسة عربية متناسبة مع المأزق الاقليمي المفتوح أو لتبرير عدم خشية العرب من الاستفتاء الكردي وعدم مبالاتهم بنتائجه، وماذا عن الانفتاح العربي على بغداد في هذه الحال، وماذا عن مستقبل العلاقة مع العراق وسورية اذا وجدتا أن العرب تواروا في حين أن إيران وتركيا وقفتا معهما؟...
إذا كانت هناك مرجعية أو قيادة عربية حالياً، فلا شك أنها في الخليج وليس في أي مكان آخر، ومن شأنها أن تحدد موقفاً بالغ القوة والوضوح حيال الدولتين الكبريين والدول الثلاث التي باتت قواميسها تعتبر المنطقة العربية كلّها «مناطق متنازع عليها»... فإيران آخر دولة يحق لها أن تشتكي وتغضب وتحشد قوات على حدود كردستان، لأن ممارساتها أجهضت أي وئامٍ ممكنٍ في العراق وحفّزت كردستان على التعجّل بسيناريو الانفصال. بل إن النظام الإيراني الذي يرفض «تغيير الحدود» و «السيناريوات الجديدة في المنطقة» هو الذي استدرج العراق وسورية واليمن إلى مشارف التقسيم... أما إسرائيل التي لا تعترف للفلسطينيين بحقهم في تقرير مصيرهم ومصير أرضهم التي تحتلّها، فلا صدقية لدعمها الاستفتاء كممارسة مشروعة لحق الأكراد في تقرير مصيرهم في مناطقهم غير المحتلة... وأمّا تركيا فمن شأنها أن تدرك عاجلاً أن «الأخونة» المتزايدة لسياساتها وتحالفها مع إيران لن يعالجا آجلاً معضلتها الكردية ولن يعزّزا مواجهتها لمشاريع التقسيم.