تُشكّل الساحةُ المسيحية دائماً مسرحاً للتحوّلاتِ السياسيةِ وإطلاقِ الأفكار التغييرية نظراً للتنوّع الذي تعيشه، في حين أنّ الجميعَ يستحسن إنتقالَ هذه التجربة الى بقية الأفرقاء وعدم إنتظام الطوائف في معسكر واحد مقفل
 

لم يعد في الإمكان إخفاءُ مدى التباعد في العلاقة بين «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر»، والقول عكس ذلك يشبه مشهديّة «النعامة التي تطمر رأسها في الرمال». وفي حين أنّ السبب الأوّل للخلاف المستجدّ بين «الأخوة» هو الإخلال بالوعود التي قُطعت قبل إنتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، إلاّ أنّ هناك شقاً أيديولوجياً لا يمكن إغفالُه مع أنه لا يشكّل عاملاً أساسياً في تخريب العلاقة.

يُخطئ مَن يظنّ أنّ الفراق بين القادة الموارنة هو حديث العهد، فمراجعة التاريخ تُظهر أنّ الموارنة، وحتى قبل إنشائهم «لبنان الكبير»، كانوا على خلافٍ دائم خصوصاً بين المقدّمين الذين كانوا بمثابة حكّام المناطق، وقد وصل الأمرُ في القرن التاسع عشر الى انتخاب بطريركين على رأس الطائفة.

لكنّ هذه الخلافات التي استمرّت بعد ولادة دولة «لبنان الكبير»، لم تؤدِّ يوماً الى تغيير النظرة الإستراتيجية الى الكيان، فعلى سبيل المثال، عاش لبنان فترة إنقسام بين «الكتلة الدستورية» بزعامة الرئيس بشارة الخوري و«الكتلة الوطنية» بزعامة الرئيس اميل إدّة، من ثم شهدت الساحة تنافساً بين الرئيسَين فؤاد شهاب وكميل شمعون، إضافة الى دخول الشيخ بيار الجميل والعميد ريمون إده والبطريرك بولس بطرس المعوشي حلبة التطاحن الماروني، وبقي شعارُ «لبنان أولاً» مقدَّساً عند الموارنة، ونقطة جمع بينهم.

أما الآن، فيرى كثيرون أنّ نوعية التنافس بين الأقطاب المسيحيين تغيّرت، وعلى رغم الحملات، والحملات المضادة، بين حزبَي «القوات اللبنانية» و«الكتائب»، والتباعد الحاصل وسقف التخاطب بين المناصرين الذي يصل مراراً الى حدّ التجريح الشخصي، فإنّ المبادئ التي تجمع الحزبَين ما زالت حاضرةً بقوة، ويؤكّد الحزبان شعار «لبنان أولاً» الذي أطلقه الرئيس الشهيد بشير الجميل، مروراً بالنظرة الى دور الدولة وحصر السلاح في يدها وتطبيق «إتفاق الطائف» وصولاً الى علاقات لبنان بالخارج، إن كان بدول الغرب أو بالمحيط العربي.

في المقابل، لم تتمكّن المتغيّرات التي حصلت منذ إنتخاب عون الى الآن من تقريب وجهاتِ النظر السياسية بين «القوات» و«التيار»، فالدكتور سمير جعجع ما زال متمسّكاً بمبادئ «14 آذار»، فيما يشدّد «التيار» يوماً بعد يوم على أهمية تحالفه مع «حزب الله»، وبالتالي فإنّ نظرية «القوات» من أنّ إنتخابَ عون سيجعله أقربَ الى خطّها السياسي ويبتعد عن الحزب سقطت.

من جهة أخرى، وعلى رغم من أنّ «التيار» أوصل رئيسه الى سدّة الرئاسة، وبات يملك نفوذاً كبيراً داخل المؤسسات الأمنية والقضائية ومؤسسات الدولة الأخرى، إلّا أنّه ما زال يدعم سلاحَ «حزب الله» ما يتناقض حسب «القوات» مع منطق الدولة ويقوّي الدويلة.

والنقطةُ الأساسية هي العلاقة مع النظام السوري، حيث إنّ المسيحيين، وفي عزّ العلاقة مع النظام أثناء دخول «قوات الردع العربية» الى لبنان عام 1976، بقي حذرُهم سائداً من الجار القريب، لتنفجر بعد سنتين حربُ المئة يوم في الأشرفية ويعود العداءُ بين المسيحيين ونظام الرئيس حافظ الأسد، بينما إستطاع عون بعد إستدارته السياسية أن يذهب الى سوريا ويأخذ معه نصفَ المسيحيين الى الخط الذين كانوا يعتبرونه عدوَّهم.

ويُعتبر اللقاء بين رئيس «التيار الوطني الحرّ» الوزير جبران باسيل ووزير الخارجية السورية وليد المعلم هو «الشعرة التي قصمت ظهرَ البعير»، خصوصاً أنّ «القوات» ترفض التنسيق مع النظام السوري حتّى في قضيّة إعادة النازحين التي تخيف اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً.

لا شكّ في أنّ الخلافَ السياسي يكبُر، وما الإصطفافاتُ الإقليمية إلّا عاملاً يزيد من التباعد الداخلي. وفي هذا الإطار، يشكّل «التيار» حليفاً لمحور «الممانعة» الذي يضمّ سوريا وإيران، وعلى رغم كل علاقات باسيل الخارجية لكنّ هذا الأمر لم يبعده عن «حزب الله» وحلفائه الإقليميين، وبالتالي فإنّ النظرة الى السياسة الخارجية تختلف، حيث تؤكّد «القوّات» تمسّكَها بأفضل العلاقات مع الدول العربية، وعلى رأسها السعودية ودول الخليج ومصر.

قد يكون النزاعُ السنّي - الشيعي قسّم المسيحيين، لكنّ هناك وجهة نظر قريبة من «التيار الوطني الحرّ» تؤكّد أنّ الخطَّ الإستراتيجي الذي إتّبعه منذ العام 2005 أدّى الى عودة المسيحيين الى السلطة وإنتزاع حقوقهم، فمن جهة كان هناك إستئثارٌ إسلامي بالحكم، ومن جهة أخرى كان المجتمع الدولي لا يقيم حساباً للدور المسيحي، فيما المسائل الإقليمية الكبرى ليست في يد اللبنانيين، ومن ضمنها سلاحُ «حزب الله».

كذلك، فإنّ نضالَ «التيار» هو لإستكمال إعادة التوازن الوطني الذي بات أسهل تحقيقه بعد إنتخاب عون وإقرار قانون إنتخاب عادل، فيما مسألة إعادة النازحين تشكّل هاجسَ «التيار» ويسعى بكل الطرق لإعادتهم وحتى عبر الحوار مع النظام السوري، «ونحن متّفقون مع «القوات» على إعادتهم، لكننا نبحث عن الأسلوب الصحيح، فهم يتحدّثون عن إعادتهم عبر الأمم المتحدة»، وهنا نسأل: «لماذا لم يتحدّثوا مع أصدقائهم الدوليّين لإعادة النازحين الذين يسكنون في مزيارة وبشري؟ ولماذا لجأت بلدياتُ هذه المناطق الى طردهم، فأين الأمم المتحدة؟».

ينظر المسيحيون الى ورقة «التفاهم» بين «القوات» و«التيار» على أنها «خشبة خلاص»، لكنهم يشعرون أنها ستتحوّل كابوساً إذا إستمرّ الشقاق، وكأنّ التاريخ يعيد نفسَه ونعيش مرحلة 1988-1990، حيث ساد الوئامُ العلاقة بين «القوات» وعون لأشهر وخلال «حرب التحرير» لتنفجر بعدها «حربُ الإلغاء» التي دمّرت المجتمعَ المسيحي، فهل إنتهى شهرُ العسل الثاني، وبدأنا نستعدّ لـ«حرب إلغاء» من نوعٍ آخر؟