بين العامين 2004 و2005، وما تخللته تلك المرحلة إقليمياً ودولياً، كان وليد جنبلاط رأس حربة ضد الوصاية السورية، وأحد أبرز العاملين في الخلف على خطّ اللقاءات المعارضة. كانت الظروف الدولية تسمح بذلك، وكان جنبلاط قائد ثورة الأرز، التي يترحّم اليوم على أيامها، واصفاً إياها بالزمن الجميل الذي ذهب. انتهى الكباش السياسي والإقليمي بعد سنوات، في تسوية الدوحة. ومنذ ذلك اليوم تغيّر جنبلاط، كما تغيّر الواقع السياسي في البلد. ابتعد جنبلاط عن قوى الرابع عشر من آذار ووقف في الوسط. الموقف نفسه يتكرر اليوم، ولكن بشكل مختلف، وفي ظروف أكثر خطورة ودقّة، لا سيما بعد خسارة الرهان على إنتصار الثورة السورية.

كان إبرام التسوية الرئاسية، وتنازل الرئيس سعد الحريري لمصلحة انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. الإشارة الأبرز التي التقطها جنبلاط هي أن المواجهة أصبحت صعبة جداً، إن لم تكن مستحيلة. لذلك، سار في التسوية، التي حاول الثنائي فيها، أي المستقبل والتيار الوطني الحر، تهميشه وتهميش الرئيس نبيه بري. لذلك، اتخذت المواجهة طابعاً جديداً، إذ انحصرت بأمور تكتيكية وإجرائية عادية في بعض الملفات، فيما سقطت المواجهة السياسية.

ساءت العلاقة بين الحريري وجنبلاط وبري، لكن شعرة معاوية لم تنقطع. وما أعاد وصلها وتعزيزها، هو التطورات الإقليمية التي طرأت أخيراً، ولو استمرّت واستجاب لها المعنيون بها لأدت إلى الإطاحة بالتسوية. لكن الثلاثي، بالإضافة إلى حزب الله والتيار الوطني الحر، لا يجدون من مصلحتهم فرط التسوية. لذلك، كان الالتقاء على هذه المصلحة أكبر من أي خلاف. وهذا ما عزز الترويكا مجدداً، في ضوء استشراف تصعيد سعودي تجاه لبنان أو المساومة الحاصلة فيه. فلعب جنبلاط مجدداً دور رأس حربة الحفاظ على التسوية، وعلى الستاتيكو القائم. يظهر ذلك من خلال إستقباله في منزله رئيسي البرلمان والحكومة، وما تضمنه اللقاء من إشارات إيجابية وتطمينية في اتجاه الضاحية الجنوبية.

أسهمت هذه الظروف في إعادة تفعيل دور جنبلاط، كبيضة قبان، أو كميزان للوضع السياسي. فلو مال باتجاه التصعيد، لأحرج الحريري وأجبره على الذهاب أكثر نحو المواقف التصعيدية، إنسجاماً مع التحولات الإقليمية، التي عكستها السعودية لبعض الأفرقاء اللبنانية. وبما أنه حافظ على التسوية، فهو شكّل ضمانة أو مبرراً لبقاء الحريري في موقعه. ولن يتم تقريش هذا الدور حالياً، أو سريعاً، فإن الخطوة التي قام بها جنبلاط، هدفها أبعد من اللحظة، وهي تهدف للوصول إلى الانتخابات النيابية، حيث تقريشها سيكون هناك، سواء أكان على قاعدة التحالفات، أو الضمانات التي سيحصل عليها زعيم الحزب الإشتراكي، والتي ستعيد إنتاج كتلة نيابية تابعة له، قادرة على لعب الدور السابق الذي لطالما لعبه. وإذا كانت الظروف السياسية ستقود إلى ذلك، من خلال إرسال إشارات التطمين إلى حزب الله، فإن بعض المعطيات والاحصائيات تفيد بأن تراجع حصّة التيار الوطني الحر ستعني أن كتلة الإشتراكي ستبقى هي الحصان الذي يحتاج إليه الجميع للفوز في أي سباق أي استحقاق.

هذا ما يراهن عليه جنبلاط، وهذا ما أسهمت الظروف في إعادة إنتاجه، من خلال إعادة إنتاج الترويكا القديمة- الجديدة، مع الحفاظ على التحالفات الأخرى، سواء مع رئيس الجمهورية أم مع حزب الله. ويعرف جنبلاط، أن حزب الله أكثر ما يكون اليوم بحاجة إليه، هو الإلتفاف اللبناني حوله، وعدم الخروج بمواقف تنتقده أو تصوّب عليه، في ظل الحملة الإقليمية والدولية التي يتعرض لها. لذلك، يبقى الجميع في منطقة آمنة. فإذا ما عاد محور الحزب وإنتصر في الإقليم، تبقى التسوية قائمة، وحصص الجميع محفوظة. وإذا ما خسر أو أجبر على الإنسحاب من سوريا، فتكون ضمانة هذا الموقف بأن لا يقوم الحزب بردّة فعل سياسية أو عسكرية ضد من ناهضوه.

وكما تمسّك اللقاء بالحفاظ على التسوية، وبإعطاء الضمانات للحزب، كذلك كان هناك حرص من جنبلاط والحريري على حسن العلاقة مع السعودية ووقف الحملات الإعلامية والسياسية ضدّها. كما تمسّكا بالعلاقة الجيدة معها. وأشارا إلى أنهما سيزورانها حينما يطلب قادتها ذلك، لأنه لا يمكن مواجهة السعودية. مع التأكيد على عدم إنعكاس أي تصعيد سياسي سعودي على مواقفهما في الداخل. وهنا ثمّة من يربط ذلك بأن الحزب يخشى تزامناً مع العقوبات، أي ارتدادات للقمّة السعودية الروسية، أو أي قرارات قد تكون اتخذت فيها، ومن شأنها أن تؤذي الحزب أو تؤثر عليه سلباً.