كان العرب وعلى مدى خمسين عاماً وأكثر يشتمون اتفاقية سايكس - بيكو لأنها قسّمت أمتهم وديارهم. وهم الآن، وفي غمار مطالب وممارسات الفيدرالية والانفصال يترحمون على تلك الاتفاقية، التي كان من ثمراتها المُرّة قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.
إنّ المشاهدَ اليوم أنّ أبرز مشروعات الانفصال هو المشروع الكردي، في سائر دول المنطقة. وهو مشروعٌ قديمٌ سابقٌ على سايكس - بيكو، وظلَّ قائماً بعدها. هو متصلٌ بالوعي القومي لسائر الإثنيات الثقافية والعرقية في المشرق في مطالع القرن العشرين. وقد ظهر أو برز في منطقة البلقان، ولدى الأرمن والأكراد في الإمبراطورية العثمانية أو الرجل المريض، كما سمّاها المستعمرون الغربيون في القرن التاسع عشر. وقد بدأ نقاشٌ حادٌّ في أوساط الاستراتيجيين الغربيين منذ الستينات من القرن الماضي، ومؤداه: هل تأتي عِلَلُ الانفصاليات من الوعي الديني الخاص، أو من الوعي الإثني - القومي الخاص؟ ويرجع ذلك وقتها إلى الحالة أو الحالات في آسيا وأفريقيا. وبسبب تطورات الحالة الباكستانية بالذات، انتصر الرأي القائل إنّ الوعي القومي هو السبب الأول للميول الانفصالية، ويأتي بعده الوعي الجهوي، ويأتي العامل الديني ثالثاً. فقد قامت باكستان نتيجة التمايُز الديني لدى مسلمي السند في الأصل. لكنّ البنغاليين المسلمين في الجزء الشرقي منها، ما لبثوا - بمساعدة الهند - أن أقاموا دولة بنغلاديش في السبعينات. وبذلك تغلّب الوعي الإثني على الوعي الديني.
ومنذ القرن التاسع عشر، وفي منطقة البلقان بالذات، ظهرت كل الانفصاليات في نطاق الوعي الإثني- القومي، وليس بسبب الوعي الديني الخصوصي بالدرجة الأُولى. والفرق بين الحالات في القرنين التاسع عشر والعشرين، أنّ المستعمرين الغربيين والقوى الغربية الأُخرى، كانوا سلبيين تجاه وحدة أراضي الدولة العثمانية، ولذلك دعموا الانفصاليات الإثنية (ألبانيا مثلاً)، بينما عادوا لجمع الإثنيات البلقانية في دولة يوغوسلافيا بعد تحطم الإمبراطورية النمساوية - الهنغارية. ولأنهم احتلوا المنطقة التي كانت تشغلها الدولة العثمانية، فقد تمايزت وتصارعت مصالحهم؛ فأنتجوا دولة إسرائيل من لا شيء غير الوعي الديني والقومي اليهودي والصهيوني؛ في حين ما رأوا ضرورة لإقامة الدولة الكردية، ورأوا أنّ المشروع الأرمني ما عاد قائماً بالمشرق بل في أراضي الإمبراطورية السوفياتية.
ومنذ التسعينات، أقبل الأميركيون والإسرائيليون على التفكير في الدولة الكردية. وأنشأ الأميركيون كما هو معروف منطقة حظر الطيران، التي سمحت بإقامة إدارة كردية، وتجربة كردية في عمليات بناء الدولة والكيان. لكنْ بعد ست سنواتٍ من الصراع، والإجماع على ضرورة الاستقرار، ما عاد أحدٌ يريد تغيير الحدود، حتى لو كان ذلك لصالح إسرائيل. وقد أفاد من ذلك بشار الأسد، كما أفاد العراقيون الجدد بعد صدام. وصار ذلك كلُّه لغير صالح الأكراد. إنما حجة الأكراد الآن أنه في كل مرة يوشكون على إقامة كيانٍ سياسي خاصٍ لهم، يأتي من يقول هلم: لكم حق تقرير المصير، لكنّ الوقت غير مُلائمٍ الآن!
إنّ الدارج الآن مناطق الحكم الذاتي والفيدراليات. وتبقى السلطة المركزية، لكنها ضعيفة، ومنهمكة بتوزيع الموارد أو حجبها. وهذا الحجب بالذات يزيد من استثارة الإثنيات والجهويات، كما في ليبيا وفي المناطق المتنازع عليها على حدود إقليم كردستان. فالمبدأ القومي والإثني له وجهه الآخر، وهو أنه يقسّم الداخل على أساس التمايزات اللغوية أو السياسية. بحيث تستطيع كلُ قوة كبرى أو مجاوِرة التدخل للغلبة في مناطق وشقوق النزاعات مثلما تفعل إيران في السليمانية الآن. وقد ظلَّ الجنوبيون السودانيون موحَّدين في الثورة على الشمال، لكنهم عندما كسبوا الدولة ضاعت وحدتهم الداخلية، في عمليات الصراع على السلطة.
ما هو الأمر الذي أريد التوصل إليه؟ أنّ المشروع الكردي قديمٌ وله جذور أرضية ومحلية ولغوية وسياسية ناجمة أخيراً عن تجربة السنوات العشرين الماضية وأكثر. ويمكن للأتراك والإيرانيين خنقه بمعاونة أو تضامن السلطة العراقية، وموافقة أميركا وروسيا. لكنه مشروعٌ لن يموت، ولأنّ الأكراد ذاقوا طعم الانفصال بتجربة سياسية زاخرة، إنما في الانفصال لا غنى لهم عن كركوك، ولن يسلِّم أحدٌ لهم بكركوك التي يحتلونها الآن!
ولنلتفت إلى الوعي الديني. ليس في المنطقة دول دينية غير إيران وإسرائيل. والدواعش وأشباههم على توحشهم، ما امتلكوا مشروعاً انفصالياً. وكل الإسلاميين يدعون إلى توحيد البلدان تحت سيطرتهم، وينبذون المخالف. فالمشكلة معهم مشكلة استيلاء وسيطرة وعنف، يمكن أن تنفر منها فئة أو أكثر، وتفكّر في الانفصال، وهذا هو الأمر الآن مع إيران وميليشياتها. لكنّ الدين قابلٌ للاستخدام أو التأثير بأشكالٍ أُخرى. فلدى الصرب على سبيل المثال صارت الأرثوذكسية ديناً قومياً أو شبه قومي متلائماً مع النزعة العصبية أو القومية السلافية. وهذه الظاهرة، أي ظاهرة الدين القومي أو شبه القومي سائدة في إيران بالنسبة للتشيع. ولذلك فإنهم في هذه الأيام يرغمون الشيعة الآخرين الذين يتزعمونهم خارج إيران بتقاليدهم الشيعية والأُخرى القومية. وقد ظهر ذلك منذ مدة في احتفائيات عاشوراء، التي اصطنع لها الإيرانيون «تقاليد» وأعرافاً تُلائم مصالحهم، وما كانت موجودة من قبل.
ومرة أُخرى، وبعكس الأرمن واليهود؛ فإنّ النزعة الكردية تبدو قومية خالصة، ولا تستخدم الدين منذ النصف الثاني من القرن العشرين. لكنّ الإيرانيين استطاعوا تحقيق اختراق بين الأكراد الشيعة وهم قلة، وكذلك بين التركمان الشيعة. إذ صار ولاؤهم لإيران وليس للبارزاني أو إردوغان. ويرجع ذلك لشعور هؤلاء بالعزة والفخر نتيجة الغلبة الإيرانية الظاهرة بالمنطقة الآن.
لقد تحدثنا طويلاً عن الإشكاليات القومية والدينية التي يحفل بها المشرق العربي اليوم. ويظهر من العرض أنه حتى الميول الانفصالية القوية والتاريخية تظل صعبة التحقق، فلماذا لا تنجح الفيدراليات، التي صار الجميع يسلِّمون بها بعد طول رفض؟ هي لا تنجح، لضعف فكرة الدولة المركزية، وسوء تدبيرها، بحيث لا تستطيع إدارة التعدد السياسي والإداري. وهو أمرٌ ظاهرٌ في العراق ولبنان اليوم. إذ ما تزال الفكرة السائدة أنّ الفيدرالية موصلة إلى الانقسام والانفصال، ومثيرة للمخاوف لدى سائر الفئات. في الدول التي أدخل الأميركيون وغيرهم فكرة الفيدرالية عليها، لإراحة الأقليات الإثنية والدينية، سادت في المركز من جديد قوة غالبة، والشعور بالغلبة لا يعطي فرصة للتعدد أو اللامركزية الموسعة. وهذا هو الوضع في العراق. أما في لبنان فإنّ الغلبة من جانب طائفة تُحدث نزاعاً داخلياً. هكذا حدث مع الموارنة، وهو يحدث هذه الأيام مع الشيعة الغالبين. ولذلك ليس هناك نقاش عقلاني حتى بشأن اللامركزية! ويا للعرب!