يعيش لبنان بين منطقين. منطق المنتصر، ومنطق المغلوب المطلوب دوماً إلى بيت الطاعة، والمفروض عليه تقديم أوراق اعتماد وصكوك البراءة أو الوطنية، إضافة إلى طلب الصفح والغفران من الطرف الأقوى عن مواقف عارضه وشاكسه فيها، ليضمن احتفاظه بدوره السياسي. تكرّست هذه المعادلة بعد احتدام الصراع المنعكس من ارتدادات الثورة السورية ومساعي وأدها. من يتمتّع بسرعة البديهة السياسية والأمنية، يبادر إلى الهجوم دوماً من موقع القوة، فيما يضطرّ الطرف الآخر إلى تلقي الصفعات.

بمعزل عن المجاملات، والكلام المنمّق، فإن طرفي الصراع الاكبر، كانا مسلمين، شيعياً وسنّياً. وجد الطرف السنّي نفسه مستهدفاً، فيما الطرف الشيعي استمرّ بهجومه حتى سيطر على لبنان، ودخل سوريا مساهماً أساسياً في تطويع ثورتها وتغيير بنيتها، فيما من طرح نفسه في مواجهته قدّم أوراق اعتماده وتنازلاته للعودة إلى السلطة.

وغالباً ما تلحق الدولة بكل مؤسساتها بالطرف الأقوى، هي لعبة الحكم والسلطة في لبنان. وكذلك استنسخ الحليف المسيحي للطرف الشيعي عمله السياسي، واستطاع بالنهاية إيصال مرشّحه لرئاسة الجمهورية، مقابل مزيد من التنازلات سنيّاً. بدأ ذلك منذ ما قبل الإبراء المستحيل. لا مجال للهرب من واقع ثابت، هو أن السنّية السياسية اللبنانية منذ لبنان الكبير إلى اليوم، كانت تجد نفسها مضطرة دوماً إلى تبرير نفسها ووجودها بتقديم التنازلات، وذلك للقول إن أركانها ليسوا إرهابيين، وبأنهم قادرون على التمثّل بالجماعات الأخرى، وخصوصاً الجماعات التي تعرف الحياة وتحبّها وهو الطابع المعروف عن الجماعة المسيحية.

كان السني تاريخياً يعيش عقدة المسيحية السياسية لجهة ضبط شارعها وتجميعه من حولها على شعارات مشتركة غير قابلة للاهتزاز أو النقاش. والمجتمعية رغبة في الحياة المنفتحة، بعيداً من الحياة المعلّبة أو المقيّدة في أحكام تقليدية. كانت هذه نقطة الضعف الأولى، فيما نقطة الضعف الثانية، تمثّلت في تنامي ظاهرة الإرهاب، فوجدت السنية السياسية نفسها مضطّرة إلى تبرئة نفسها من هذه التهمة بمزيد من التنازلات، والتخليات، ليس عن متهمين أو مرتكبين فحسب، بل حتى عن مدنيين وأناس عاديين في أقل تفاصيل من التفاصيل الإدارية، أو الوظيفية.

عمل حزب الله وحلفاؤه، لا سيما التيار الوطني الحر، على الاستثمار في نقاط الضعف، تجلّى ذلك في التظاهرات التي شهدها لبنان في العام 2015، والتي وصف فيها التيار الوطني الحر، تيار المستقبل، بالداعشية السياسية التي ترتدي ربطة عنق. استمرّ هذا الهجوم إلى أن خضع زعيم السنية السياسية، وانتخب ميشال عون رئيساً للجمهورية.

وطوال هذه السنوات، كانت تتردد شعارات وعبارات، تحذّر من إنفجار "المارد السنّي" أو من الحقن الذي سيؤدي إلى مزيد من التطرف، ما سيولّد إشكالات أمنية، فوجدت السنية السياسية التي كانت مبعدة عن السلطة، أنها بين نارين، إما الاستمرار في ابتعادها مقابل تنامي ظواهر متطرفّة، أو التنازل ومراكمة الخسائر الشعبية بهدف الفوز بالعودة إلى التركيبة السلطوية.

مناسبة هذا الكلام، هي صدور حكم الإعدام على الشيخ أحمد الأسير، ومع التأكيد على وجوب محاكمة الأسير، أو محاكمة أي طرف يثبت تورّطه بالاعتداء على أي طرف آخر، أو أي مؤسسة أمنية. لكن ما جرى، هو الدليل الأكبر، على هزيمة سياسية مني بها الفريق الذي تنتمي إليه السنية السياسية، رغم خلافها الوجودي مع الأسير والظواهر المشابهة.

لا شك أن السنية السياسية، وجدت نفسها محرجة في الدفاع عن الأسير، ولكنها أيضاً محرجة في الشارع، بشأن كيفية السماح بإصدار هكذا حكم بحقّه مقابل السكوت عن قضايا مشابهة أخرى. وينطوي ذلك على مزيد من السخط الشعبي تجاه تيار المستقبل، الذي أصبحت بيئته تعتبره غير قادر على حمايتها. قد يكون التبرير السريع لذلك، هو أن المستقبل لا يضغط على القضاء، وهو يؤيد محاسبة المتورطين أياً كانت توجهاتهم. لكن هذا الكلام، لا يقنع المستقبليين ولا السنة، الذين أصبحوا ينظرون إلى أنفسهم بأنهم مستهدفون، حسبما ظهرت ردود الفعل على ما حصل بالأمس.

سارع كثيرون الى تقديم شواهد على إنعدام العدالة، بالتذكير بمقتل الطيار سامر حنّا، إلى الحكم على الوزير السابق ميشال سماحة، وعدم صدور أحكام أو تنفيذها بحق مفجري مسجدي السلام والتقوى في طرابلس. أكثر الشواهد التي يستند إليها الممتعضون من سياسة المستقبل، هي أن المحكمة العسكرية، التي وُعد أهالي الموقوفين أكثر من مرّة بإلغائها، اتخذت قراراً بمنع حضور محامي الأسير وتقديم الأدلة الموجودة لديهم. فكان حولها خصام وهي الخصم والحكم.

قد يستحق الأسير حكم الإعدام، لكن أيضاً يستحقه من مر أمام المحكمة وخرج رافعاً علامات النصر، من محمود حايك إلى قاتل الطيار سامر حنّا. وللعبرة بين موقف المنتصر والمهزوم، لا بد من مقارنة بسيطة، بين بعض الاعتداءات التي طالت الجيش في عرسال، والاعتداء الذي طاول الجيش عند كنيسة مار مخايل في 2007. في تلك الحادثة وبعد إطلاق النار على الجيش، ردّ الجيش بالمثل، ما أدى إلى سقوط ثمانية قتلى، لكن فيما بعد إضطر قائد الجيش آنذاك ميشال سليمان إلى الذهاب إلى الضاحية وتقديم اعتذار، مع سجن الضباط والعسكريين الذين كانوا موجودين. أما في عرسال فقد وسم أهلها جميعهم بالإرهاب وجرى التعاطي معها على هذا الأساس.

هي عقدة الضعيف تجاه المنتصر، أو عقدة الذمية السياسية. لا شك أن قرار المحكمة العسكرية قد يعيد الاعتبار إلى شهداء الجيش، وقد يكون حكماً يعزز مفهوم قوة العدالة وانتصارها، لكن الجانب الأساسي لهذا الحكم، هو إعادة الاعتبار ورفع المعنويات لمن شعر بأنه مهزوم، بفعل تسوية أخرجت مئات المسلّحين عن الحدود اللبنانية، بشروطهم، فيما هم أيضاً متهمون بقتل عسكريين ومدنيين. قد تكون هذه استعاضة عن تلك، لكن الأكيد أن تلك العقدة لن تحلّ، سيبقى الضعيف مضطراً إلى تقديم أوراق اعتماده، كي لا يصبح إرهابياً. من حقّ القوي ممارسة قوته، والاستناد إليها لتحقيق مزيد، وطالما نقطة الضعف موجودة، فإن أمام القوي مزيداً من الانتصارات، ومن سحق الأخصام.