فرَض قرار المجلس الدستوري بقبوله الطعنَ في قانون إحداث الضرائب نفسَه بنداً أوّلاً على لائحة اهتمامات المسؤولين رغم كثافة الملفّات المفتوحة على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية. وفي الوقت الذي نزلَ «صاعقة» على البعض، أراح آخرين عندما فتح نافذةً على احتمال أن تعود للدستور هيبتُه ومكانتُه. فما هي الظروف التي قادت المجلسَ إلى قراره هذا؟ وهل سيَصمد أمام غضبةِ بعضِ أهلِ الحكم؟
 

عندما أنشِئ المجلس الدستوري وخُصّصت المادة 19 من الدستور لهذه الغاية، عُدَّ من إنجازت «اتفاق الطائف» الإصلاحية. وعندما كُلّف مهمّة مراقبة دستوريةِ القوانين ومدى تطابقِها مع مقتضيات الدستور حصراً، وسمّى الهيئات والشخصيات التي يحقّ لها المراجعة امامه، حُرِم من مهمّة أخرى كانت مطلوبة في حينِه وهي مهمّة «تفسير الدستور» التي أبقاها النواب لهم حصراً.

ومناسبة التذكير بهذه المحطة الأساسية تعود الى أنّ الرهان الكبير على المجلس الدستوري من اجلِ انتظام الحياة السياسية والتزام مقتضيات الدستور تعرّضَ لسلسلةٍ من الانتكاسات بعدما عطّلت السياسة دورَ المجلس في محطات رافقَت الطعونَ في قوانين التمديد مرّتين للمجلس النيابي، التي رُفعت اليه، فعطّلت الضغوطُ الطائفية والسياسية آنذاك نصابَ المجلس باستمرار تغيّبِ عددٍ من اعضائه مرغَمين عندما عرِض عليه طعنان أحدُهما للرئيس السابق للجمهورية العماد ميشال سليمان والثاني لرئيس واعضاء تكتل الإصلاح والتغيير، الى ان عبَرت مهلة الشهر التي تتحكّم بعمل المجلس وصلاحياته وتحوّلَ القانون امراً واقعاً لا نقاش فيه على رغم حجم الارتكابات التي انطوى عليها.

وعند هذه الهزّة التي اصابَت المجلس الدستوري في الصميم التأمَ مرّةً أخرى وتعاهَد أعضاؤه على عدم تكرار ما حصَل بعد ان أقرّ المتغيبون بحجم الخطأ المرتكَب وعاد المجلس الى عمله بنحوٍ طبيعي وتعهّد الجميع بعدمِ تكرار الخطأ في تلك الفترة التي يرغب البعض من أعضائه أن تُشطَب من حياتهم وتاريخ المجلس على حدّ سواء.

وبعد هذه الصلابة التي استعادها المجلس الدستوري في تلك المرحلة وامام حجم التفاهم المحقّق بين أعضائه توقّفَ المراقبون عندما تقدّمت كتلة حزب الكتائب وخمسة نواب آخرين بالطعن في دستورية قانون الضرائب وبدأت الحسابات تقاسُ على هذا الأساس، فتعدّدت السيناريوهات ومعها التوقّعات حول إمكان تعثّرِ المجلس مرّةً أُخرى في إصدار قرار من النوع الذي اصدرَه امس.

وعليه، يعترف أحدُ أعضاءِ المجلس بأنّ قبول الطعن بقانون الضرائب كان يجب ان يكون إنذاراً مسبَقاً الى كلّ من شكّك في دور المجلس وصلاحياته ووحدته في آن، ومن لم يفهم هذه الرسالة «ذنبُه على جنبه». ويضيف: «عبر المجلس الدستوري في تعاطيه مع الطعن الجديد المرحلة بأفضل عبور، فالتفاهم الذي ظلّلَ عمله تعرّض لأكثر من هزّة بقيَت بين جدرانه ولم تخرج الى العلن سوى بتلميحات اعلامية وحافَظ اعضاؤه بنسبةٍ كبيرة على سرّية المداولات، وخصوصاً عندما تمنّى رئيس المجلس في اوّلِ لقاء له في 18 ايلول الجاري بعد ثلاثة ايام على تقديم مقرّر المجلس القاضي صلاح مخيبر تقريرَه حول الطعن، الحفاظَ على سرّية المداولات كونها من صلب مهمّات المجلس وأنّ الخروج عنها يمسّ هيبته وأقدس ما يتمتّع به من صلاحيات. وكلّ ذلك من اجلِ ان يستعيد المجلس صورته البهية والنظامية والجدّية في مقاربته لهذا الطعن او ايّ طعنٍ آخر يمكن ان يعرَض عليه».

وبناءً على ما تقدَّم، كشَفت المعلومات القليلة المتوافرة عن المداولات انّ النقاش كان حامياً حول بعض البنود التي اشار إليها الطعن، ولا سيّما منها تلك المتصلة بآلية إقرار القانون في منتصف آب الماضي وتجاهلِ ما تقول به المادة 36 من الدستور من انّ إقراره لا يتمّ سوى بالمناداة على النواب «فرداً فرداً وبالأسماء» على ان يكون «جواب النائب واضحاً وصريحاً وبصوت عالٍ».

ومنهم من اعتبَر انّ عدم اللجوء الى المناداة بالأسماء يمكن ان تكون مخالفةً شكلية لا ترقى في نتائجها الى إبطال القانون الجديد طالما إنّ الأجواء السياسية التي سبَقت تلك الجلسة اظهرَت انّ جميع النواب متوافقون على إقرار السلّة الضريبية باسثناء نوّاب حزب الكتائب ونائبين او ثلاثة آخرين.

نالَ النقاش حول هذه النقطة معظم اوقاتِ الجلستين الأولى والثانية للمجلس الدستوري، الى ان عُرض عليه محضر تلك الجلسة النيابية صوتاً وصورة، فكانت الصدمة وانقلبَت الأجواء رأساً على عقب وتوحَّد اعضاءُ المجلس على اعتبار ما حصَل في تلك الجلسة من هرجٍ ومرج واكبَ إصرارَ الرئيس نبيه بري على مناداة النواب بالأسماء، لا يعدو خروجاً على الدستور وحسب، وإنّما يرقى الى مرتبة الفضيحة.

وإلى هذه الملاحظة الأساسية الكافية لتعطيل القانون وإبطاله برَزت ارتكابات أخرى تشكّل خروجاً على الدستور، وأبرزُها تلك المتصلة بتخصيص القانون ضرائبَ لهدفٍ معيّن وهو سلسلة الرتب والرواتب، كذلك بالنسبة الى الاستنسابية في فرض الضرائب، وهو ما تمّت الإشارة إليه بتجاوز قوانين تحمي من الازدواجية الضريبية، فقاربَها المجلس من باب عدم المساواة بين اللبنانيين بلا مسٍّ بالضرائب والرسوم وأرقامها.

وأمام هذه الحقائق كان واضحاً أنّ تعطيل القانون بسبب عدم التزام الدستور في جلسة إقرار القانون الجديد وعدم مناداة النواب عند إقراره كان كافياً لتطيير القانون بكامله، وليس ضرورياً الغوص في بقيّةِ المخالفات التي أدرَك عدد من النواب صوابيتَها عقب اللقاءِ الحواري الذي دعا إليه رئيس الجمهورية في بعبدا حول القانون الجديد، فكانت التفاهمات حولها كافية للإشارة اليها، بالإضافة الى عدم دستورية استصدار ايّ ضريبة جديدة خارج إطار الموازنة العامة.

ولذلك كلّه، لا يمكن مقاربة قرار المجلس الدستوري الذي صَدر امس إلّا من باب نجاحِه في استعادة هيبته ودوره بعيداً من ايّ تأثيرات طائفية او مذهبية او حزبية او سياسية.

فالمخالفات الدستورية المرتكَبة لا يمكن التغاضي عنها، وإنّ تغليفها بقشور قانونية امرٌ غير ممكن على الإطلاق في بداية عهدٍ قيلَ إنه سيكون «شفافاً» في مقاربته الأمورَ من جوانبها المختلفة، فكيف بما يتّصل بالدستور وكلّ ما ينتهي الى انتظام العلاقة بين المؤسسات الدستورية في البلاد.

وعليه، ليس هناك امام المؤسسات الدستورية الأخرى التنفيذية والتشريعية سوى التزام ما قال به المجلس الدستوري، فقراراته لا تخضع لأيّ مراجعة امام ايّ هيئة او سلطة أخرى، وما على الجميع إلّا الالتزام به وتنفيذه بحذافيره. ولهذه الأسباب يبدو للمعنيين في المجلس الدستوري انّ محاولات استثمار القرار في السوق السياسي غير ممكنة على الإطلاق.

وأنّ التهديد بوقفِ العمل بقانون سلسلة الرتب والرواتب التي أوحى بها البعض ليس قانونياً ولا دستورياً، فالفصل قائمٌ بين القانونَين، ولكلّ منهما اسبابُه الموجبة والنتائج المترتّبة عليه، والجميع يدرك انّ توقيف العمل بأيّ قانون لا يجوز إلّا بقانون جديد.

وليس أمام الواقع الجديد الذي فرَضه قرار المجلس الدستوري سوى دعوةِ مجلس النواب الى جلسة تشريعية تعيد طرحَ القانون نفسِه مجدّداً والبتّ به وفق الأصول الدستورية أياً كانت النتائج المترتّبة على مِثل هذه الخطوة، شرط التزام ما قال به المجلس وما أعدّه النواب عقب لقاء بعبدا الحواري من اقتراحات قوانين لتعديل وإلغاء ما يجب إلغاؤه او تعديله من مواد القانون لتنتظم الحياة الدستورية مجدّداً.

ويسأل البعض: بعد أن استعاد المجلس الدستوري هيبته ودورَه، هل سيتنبَّه المسؤولون الى ضرورة استعادة الدستور هيبته أيضاً؟ لعلّها المناسبة الفضلى لتحقيق ذلك. فهل سيفعلون؟!