عندما يستعرض المتابع أحداث الأشهر الثلاثة الماضية، وفي سائر بلدان الاضطراب العربي (وبخاصة العراق وسوريا ولبنان)، يسيطر وعي قوي بأن الخروج من مآزق فشل الدول الوطنية في المشرق، محتاجٌ إلى مبادرة بل مبادرات من جانب قوى مدنية وسياسية جديدة، لأنّ القوى الحاضرة والعاملة على ساحات تلك الدول إمّا مستنزفة وإما خاضعة للواقع الراهن، وهي تابعة في الوقت نفسه لجهة أو أكثر من الدول المتنافسة على السيطرة في تلك البلدان باستخدام أولئك التابعين المحليين. والدول المتنافسة: الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا.
ولدينا على هذه التبعية وهذا الاستنزاف مثلان بارزان من الأسبوعين الماضيين. ففي شمال سوريا تقاسم الدوليون في السنوات الثلاث الماضية ملفّ مكافحة تنظيم داعش الإرهابي. أما الأميركيون فقد استخدموا الأكراد في سائر مناطق شرق الفرات وصولاً إلى تحرير الرقة من «داعش». وألحقوا بالأكراد بعض الفصائل العشائرية العربية حتى في مناطق الأكثرية العربية وعلى رأسها مدينة الرقة. وأما الروس الذين كان همهم على مدى سنتين تصفية فصائل المعارضة للنظام السوري؛ فإنهم انتبهوا فجأة إلى أنه لا ينبغي أن ينفرد الأميركيون بشرف مكافحة الدواعش في العراق وسوريا وبالتالي الحلول محلهم، فقد اتجهوا للاستيلاء على دير الزور لمعادلة الأميركيين من جهة، ووضع جزء من الثروات البترولية والمائية تحت سيطرتهم. أما على الأرض فإنهم يستخدمون الميليشيات الإيرانية، وبقايا جيش النظام وميليشياته، والتي يغطيها الطيران الروسي، وبعض القيادات على الأرض. ويقدم الأتراك على الأرض بحجة الدفاع عن حدودهم في مواجهة الأكراد المتأمركين. وقد أعطوا أخيراً وظيفة جديدة (من جانب الروس) هي الاستيلاء على إدلب وجوارها من تنظيم النصرة ذي الأصول القاعدية.
أين هي الجهات المحلية المسلَّحة وغير المسلَّحة في هذه التركيبة المتنافرة؟ الجهات العربية المحلية وعلى الجبهات الثلاث تعمل عند أو بإشراف الأميركيين والروس والإيرانيين والأتراك. وما من جهة من هذه الجهات تمتلك القرار أو النفوذ في خوض المعارك العسكرية أو السياسية أو تحديد أهدافها أو أولوياتها. وعندما أظهرت بعض الفصائل أخيراً مقاومة للاتفاق الأميركي - الروسي على الجبهة الجنوبية وامتداداتها في البداية القريبة نسبياً من الحدود الأردنية والإسرائيلية والعراقية؛ فإنّ الأميركيين حجبوا عنها السلاح والتغطية الجوية، وهي تتجه للانسحاب والتصدع. في حين أظهر الأكراد وتابعوهم العرب شجاعة فائقة في الاتجاه لتحرير شرق دير الزور بالتوازي مع تحرير الرقة! بتشجيعٍ من الأميركيين، فتلقوا ضربة جوية روسية! وما قبل الإيرانيون بالبقاء خارج المشهد الأميركي الروسي التركي في الشمال السوري (أي ما وراء حلب)، فعرضوا في قناة (الميادين) المتأسدنة والمتأيرنة مقابلة مع من سمَّوه أبو مصطفى باعتباره قائد قوات «حزب الله» في دير الزور، كما أنهم في مفاوضات آستانة، دخلوا ضامناً للاتفاق حول إدلب، الذي ينفذه زملاؤهم الأتراك!
أما في لبنان، وحيث يسيطر «حزب الله» على القرار السياسي؛ فإنّ المشهد العسكري والسياسي في جرود عرسال ورأس بعلبك في الأسابيع الماضية، أظهر بما لا يدع مجالاً للشك التهميش الكامل لرئيس الجمهورية ولرئيس الحكومة. وكان الرجلان وجهات سياسية أُخرى (وبالاتفاق مع الأميركيين) حاولوا إعطاء الجيش الوطني اللبناني ميزة وفضيلة ضرب الدواعش في الجرود، وإخراجهم من لبنان. وهو مشهدٌ لم يَرُقْ لـ«حزب الله»، لأنه قد يجلب تداعيات على دور ميليشيا «حزب الله» الحاضر والمستقبلي. ولذلك سارع الحزب للاتفاق مع النصرة و«داعش» على سحب مسلحيهم إلى داخل سوريا، وأَرغمَ الرئيسين على أمر الجيش بوقف النار، وإرسال مدير الأمن العام اللبناني ليكون طرفاً ثالثاً في اتفاق الحزب والنظام السوري مع الإرهابيين. والأنكى من ذلك أن الرئيسين والآخرين ظلُّوا «يهوبرون» للجيش أو للجيش والمقاومة العظيمة، كأن ما حصل انتصار، ومع ذلك فإنّ الميليشيا الإيرانية منعتهم من الاحتفال بذاك النصر في ساحة الشهداء ببيروت!
ولا حاجة للحديث عن القوى المحلية العربية والعربية السنية بالعراق. فحتى الحشد العشائري (السني) وهو ضئيل العدد والعتاد والنفوذ، يقوده الحشد الشعبي (الشيعي). والحشد الشعبي نفسه يقوده الإيرانيون. وحتى في مسألة الاستفتاء الكردي والدولة الكردية العتيدة، وكل المناطق المحاذية أو المتداخلة مع إقليم كردستان هي مناطق عربية سنية في غالبيتها، لا يحس المُتابع دوراً بارزاً للمشاركين في السلطة من السنة ولو كان الموضوع الحفاظ على وحدة العراق!
إنّ الاستنزاف والاستضعاف والتغييب للأكثرية العربية في البلدان الثلاثة على وجه الخصوص، يستدعي البحث عن بدائل مدنية وسياسية واقتصادية، ما مارست اعتذاريات الخضوع والاستسلام من قبل، وعانت من التهميش والإلغاء. ولستُ مع القائلين إنّ الموجة المقبلة هي موجة أُخرى لدواعش جدد. فليس هذا هو المزاج العربي السني العام. نعم، سيحاول الإيرانيون استخدام الدواعش والقاعديين بالطرائق التي يرونها لصالحهم سواء في العراق أو سوريا أو لبنان، وربما في أوروبا؛ وذلك لكي تستمر الحملات على السنة، ولكي يستمر قتلهم وتهجيرهم بداعي أخطار الإرهاب. لكنّ التيار الرئيسي المتعَب خلال سنوات العذاب والقتل والاعتقال والتهجير، إنما يبحث عن سلام آخر، واستقرارٍ آخر، وتيارات جديدة ليس للمعارضة السياسية وحسْب؛ بل وبالدرجة الأُولى للمبادرات الوطنية. والمبادرات الوطنية كما ترد على سائر الألسنة لها ثلاثة أهداف: العمل في مدى متوسط لإقامة دولة الحكم الصالح والمشاركة ومكافحة الفساد - والعمل في الوقت نفسه على صون الوحدات الاجتماعية والسياسية ومكافحة التطرف والطائفية - والعمل على الخروج من التسلط الإقليمي والدولي. وصحيح أنّ هذه الأهداف جميعاً صعبة الآن إلى حدود الاستحالة بسبب التعب والاستنزاف؛ وبسبب الاستيلاء الإقليمي والدولي. لكنّ الصعوبة الأكبر تظل في سواد حالات الانكماش واليأس والإحساس الطاغي باللاجدوى، والاستماتة في مغادرة الأوطان والهجرة وليس بسبب الحالة الأمنية وحسْب؛ بل وبعلّة تردّي الأوضاع المعيشية والاقتصادية. ولأنّ المهامّ إنمائية واجتماعية وسياسية؛ فإنّ مسألة الملاءمة تفترض بالفعل (كما هو الوعي العام) نشاطات مدنية وخدماتية وسياسية. وهي جميعاً أمور ما عادت تنفعُ في القيام بها الجهات القائمة عليها الآن، لا الميليشيات الطائفية، ولا الجهات السياسية الخاضعة لها أو العاملة عندها.
وبالمجمل: لا بد من استنقاذ الدولة الوطنية العربية، والخروج من تجارب فشلها، بالمبادرات المتعددة والمتراكمة والتي لم يستسلم شبانها وكهولها لا للميليشيات ولا للتبعية والفساد، أو اليأس والهجرة. ويا للعرب!