لا تنفصل زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري إلى موسكو عن مسار التحولات في المنطقة. تولّت روسيا بشكل كامل الملف السوري. الجميع سلّم لها باجتراح الحلّ السياسي للأزمة السورية وفق ما تراه مناسباً، والذي قد يوسّع مناطق خفض التصعيد ويعززها في مؤتمر آستانة الأسبوع المقبل. وذلك في موازاة الانتصارات التي يستكمل لبنان الاحتفاء بتحقيقها في الجرود، والكلام عن أن الحريري ذهب إلى روسيا لبحث الحل السياسي في سوريا، وبحث ملف إعادة اللاجئين، وما يُحكى عن تقديم روسيا مساعدات عسكرية للجيش اللبناني. إلا أن ثمة سؤالاً أساسياً يطرح في شأن خلفية زيارة الحريري ولقائه المسؤولين الروس، وهو يرتبط بالمرحلة المقبلة، ويتلخّص في ما إذا كان الحريري يذهب إلى روسيا لتجنّب أن لا يكون الحل السياسي السوري على حسابه.
يقول بعض المغالين في موالاتهم للنظام السوري، ومعارضتهم المحور الذي ينتمي إليه الحريري، إن هزيمة المحور المناهض للأسد وطهران قد تحققت. بالتالي، فإنه يبحث عن فرص العودة السياسية والحفاظ على الدور والوجود في موسكو وبرعايتها. وقد يكون الحريري قرأ باكراً جداً هذه التحولات وذلك ما قاده إلى ابرام التسوية مع ميشال عون، وبالتالي مع حزب الله، وهو ما فرص عليه تقديم هذه التنازلات، لمصلحة البقاء وتحقيق مكاسب سياسية وسلطوية.
بعكس الاجواء التي توحي بأن لبنان مقبل على أزمة سياسية مستعصية، تطال ملف سلاح حزب الله والتصعيد ضده، فإن الحريري لا يزال على تميزه. يفترق عن حليفه سمير جعجع في اللغة والخطاب التصعيديين، ويفترق عن توجهات مختلف مكونات قوى 14 آذار، وحتى عن تيار المستقبل وكتلة المستقبل اللذين لا يزالان يحتفظان بالخطاب التصعيدي ضد حزب الله وايران. يبدو الحريري اقرب إلى حزب الله. تجلى ذلك في تغطيته مداهمات عرسال التي سبقت المعركة، وحيثيات المعركة فيما بعد، وحتى في خضمّ الخلاف على الصفقة التي أُبرمت مع تنظيم داعش، وتصعيد حلفاء الحريري وكوادر تياره ضدها، خرج هو ليعلن تغطيتها وأنه كان على علم مسبق بها.
بعيد التغريدة التصعيدية التي اطلقها الوزير ثامر السبهان، أصرّ الحريري على التفاهم مع حزب الله، والتمسك بربط النزاع معه. فظهر وكأنه يفترق عن التوجهات السعودية، أو عن السياق الذي اطلقه السبهان. وكان صدى ذلك واضحاً لدى الحزب، وتجلّى في موقف نائب الامين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، الذي اعتبر أن اداء الحريري عقلاني ويستحق التقدير، وأنه لا مانع من حصول حوار مباشر معه. تلقف الحريري ذلك، وأعلن من موسكو أنه يتصرف كرئيس للحكومة، وما يوجبه عليه موقعه. وهذا يعني أن رئيس الحكومة يجب أن يكون لكل اللبنانيين وحريصاً على العلاقة مع كل الاطراف. أما في شأن الحوار المباشر، فأشار إلى أنه يحدد في وقته حين تنضج الظروف.
قد يكون الغرض من وراء قصد الحريري بأنه يتصرف كرئيس حكومة، أبعد من اللحظوية السياسية الحالية، وقد يكون تصريحاً استباقياً لما ستحمله الأيام المقبلة. ولدى رئيس الحكومة نقاط قوة يرتكز عليها في خطابه السياسي، أساسها أنه يقدّم التنازلات ويعقد التسويات في أصعب الظروف بهدف حماية البلد والاستقرار فيه. وهذه قد تتحول إلى مسوغات أو مبررات يتخذها لانتهاج سياسة أخرى، أو لاتخاذ خيارات سياسية جديدة، تفرضها الوقائع المستقبلية. فحين زار الحريري سوريا في العام ٢٠٠٩، كان الشعار الاساسي لها، أنه يهدف إلى حماية لبنان ومصالحه، وصون الاستقرار فيه. وأي تحرّك مشابه مستقبلاً سيكون تحت سقف أن الحريري رئيس للحكومة اللبنانية، والمصلحة الوطنية العليا، قد تفرض على المسؤول ما لا يوافق عليه.
الأكيد، أن موقف الحريري لا يزال معارضاً للنظام السوري، لكن الموقف أمر، والخيارات السياسية أمر آخر. وقد تكون المقاربة هذه مستبعدة حالياً، لكن هذا لا يلغي احتمال حصولها استناداً إلى المسار السياسي الذي يسلكه الحريري مراراً، ويتّسم بطابع الجرأة على الاقدام لاتخاذ خطوات لها ارتدادات سلبية عليه شعبياً ومعنوياً. 
ذهب الحريري إلى روسيا، وسيلتقي نظيره والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما ذهب من قبل إلى فرنسا والتقى رئيسها ايمانويل ماكرون. وكذلك بالنسبة إلى زيارته إلى الولايات المتحدة الاميركية. وهو يعلم أن هذه الجولات التي تكتسب طابعاً أكثر أهمية وهو على رأس الحكومة اللبنانية. ولم تكن لتحصل بهذا الزخم لو كان خارج هذا الموقع. ويعرف تماماً أن الاحتفاظ بهذا الموقع، يقتضي ابقاء التفاهم بشكل أو بآخر مع حزب الله. 
يذهب الحريري إلى روسيا، لاستشراف المرحلة المقبلة، ولإمكانية استشفاف موقع لبنان فيها، المرتبط عضوياً بالمسارات السورية. لا يزال من المبكر الجزم في صورة الحلّ وآليته، ولكن أياً تكن التحولات المقبلة، فإن استخدام مصطلح بقاء النظام أو انتصاره، هو غير واقعي أو غير دقيق، لأن هذا النظام قد يبقى لفترة انتقالية محددة، ولن يبقى كما كان. بالتالي، كما غيره، سيقدّم التنازلات. فهو والمحور الذي ينتمي إليه سيقدّم تنازلات ويحقق مكتسبات، وجميعها سترعاها موسكو.