دارت الدورة القضائية والعسكرية دورتها وبدأت التحقيقات بعدما طلب وزير العدل من المدعي العام التمييزي التحقيق في الأحداث التي تلت 2 آب 2014 وأحيلَ الملف الى مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الذي كلّف مخابرات الجيش المباشرة فيها. وعليه، ما هي الآليات التي سيَعبرها التحقيق؟ وإذا فُتِح، من هي الجهة القادرة على حصره ومحاصرته؟
 

إلى جانب عشرات الملفات المؤجّلة والمتكدّسة على لائحة القضايا الخلافية التي بدأت الحكومة بتجميعها في انتظار الوقت المناسب لعدمِ توافرِ أيٍّ من الحلول والمخارج الممكنة، تتّجه البلاد الى شكلٍ جديد من المواجهة المفتوحة على شتّى الاحتمالات التي تنحو بأكثريتها إلى السلبية على خلفية التحضيرات الإدارية والقضائية والعسكرية التي أنجِزت لفتح التحقيقات في الأحداث التي اندلعت بعد 2 آب 2014 في عرسال.

ومردُّ هذه التوقعات يعود الى حجم المخاوف التي بدأت ترصُدها مراجع سياسية وأمنية من إدارة هذا الملف في هذه المرحلة بالذات على وقع احتفالات التكريم التي أجرتها الحكومة والمؤسسة العسكرية لشهدائها، ما سيؤدّي حتماً إلى إعادة إحياء الانقسامات التي شهدتها تلك المرحلة على أكثر من مستوى حكومي وسياسي وحزبي، والأخطر منها الطائفي والمذهبي.

فالجميع يتذكّر أنّ كلّ ما حصل في عرسال وعلى بوّابة من بوّابات 35 معبراً شرعياً وغير شرعي على طول الحدود اللبنانية ـ السورية على وقع الانهيارات التي شهدتها الأزمة السورية بعد عسكرةِ المعارضة وتوسّعِ «داعش» السريع بعد سيطرتها على الموصل خلال ساعات بواسطة 800 مسلّح وعلى مدينة الرمادي بأقلّ من 600 مسلح، وانتشارها سريعاً فكرياً وعسكرياً ومذهبياً في كثير من المناطق السورية مهدّدةً الساحلَ السوريّ ودمشق في أكثر من محور، كذلك بسَطت سيطرتها على المحافظات السوريّة الشمالية وألغت حدوداً في أكثر من 670 كيلومتراً بين العراق وسوريا.

قد يقول قائل أن ليس منطقياً ربطُ كلّ ما حصَل في عرسال بما جرى في سوريا والعراق، ولكن متى توسّعَت التحقيقات في أحداث المدينة لا بدّ مِن العودة إلى تلك الظروف التي عاشتها وحاصرَتها بعدما دخَل إليها سكّان القلمون الأوسط والغربي ومن قرى ريف دمشق الغربي والقصير وريف حمص الجنوبي وقبلهما من الرقة ودرعا ومحيط دمشق والمخيّمات الفلسطينية.

فالعمليات العسكرية التي قادها الجيش السوري ومجموعات من «حزب الله» وحلفاؤهما دفعت النازحين السوريين إلى المعابر المؤدّية إلى لبنان بحكمِ الجغرافيا.

وبالعودة إلى تلك المرحلة لا يمكن أحداً أن ينسى أنّه لم يكن أمام السوريين الفارذين من الموت المحتوم أيُّ معبَر آمِن في اتّجاه العمق السوري، فكانت وجهتهم الطبيعية، لا بل المفروضة عليهم، تلال عرسال ورأس بعلبك والقاع ومحيطها، فشهدت موجاتٍ بشرية وضَعت نحو 70 الف سوري في المرحلة الأولى في «ضيافة» 30 ألف عرسالي، قبل ان يرتفع العدد لاحقاً الى ما يزيد على 120 ألفاً من دون أيّ رقابة مباشرة.

ووسط عجزٍ لبناني ودولي عن وضعِ مقاربةٍ تعالج هذه الموجة التهجيرية، على غرار الأردن وتركيا اللتين أقامتا المخيّمات المحاصرة على حدودهما غيرِ المأهولة، انتشَروا في كلّ الأحياء وما بين المنازل على مساحة لبنان.

وعليه، وانطلاقاً ممّا سبق كانت مقاربة التحقيقات العسكرية التي باشرَتها مديرية المخابرات بعد الدورة القضائية والعسكرية التي اطلقَها وزير العدل عبر النيابة العامة التمييزية التي بدورها كلّفت مفوّض الحكومة العسكرية المباشرة بالمهمة الى ان بلغَ التكليف مديرية المخابرات.

وبناءً على ما هذه المعطيات الأوّلية لا يمكن مقاربة التحقيق المنتظر من دون النظر اليه من بوّابتين على الأقلّ:

- البوّابة الأولى، تتصل بالآلية الإدارية التي ستلجأ اليها مديرية المخابرات. فانطلاقاً من كونها خزّانَ المعلومات الرئيسية، السرّي منها وغير السرّي، يمكنها بما هو متوافر لديها من وثائق ابرزُها تلك المسجّلة في «سجلّ العمليات» بالتراتبية الزمنية ومضمونها بما تحويه من إفادات وبرقيات وأوامر ووقائع، أن تشكّل مادة اوّلية لتعيدَ تركيبَ وترتيب الاحداث تسلسُلاً كما جرت، فلا تقدّم حدثاً على آخر، أو رواية على أخرى، منعاً للتخبّطِ بين أولوية هذا الحادث أو ذاك، لِما لكلّ حدثٍ من تأثير على ذلك الذي تلاه لتُبنى عليها القرارات لاحقاً ومعها تحديد المسؤوليات.

ومِن بعدها يمكن للمديرية ان تكون قد وضَعت لائحة بأسماء الضبّاط والرتباء والعسكريين الذين يمكن ان تستمعَ الى إفاداتهم في المرحلة الأولى على يدِ لجانٍ عسكرية متخصّصة تشكَّل لهذه الغاية وقد تكون متعددةً قياساً على حجم اختصاصات الذين يتمّ الاستماع اليهم قبل التحقيق معهم للتمايزِ في أدوار من هم في المواقع الميدانية ومواقع القرار.

- البوابة الثانية، تزامناً لا بدّ من ان يؤدي مجرى التحقيق العسكري الى خطوة منطقية يمكن ان تقود الى فتحِ تحقيق عدليّ يَستدعي العودة الى النيابة العامة العسكرية لإصدار الاستنابات القضائية للتثبتِ من هويّات المطلوبين للتحقيق او بالأسماء مباشرةً متى ثبتت مشاركتُهم في العلميات العسكرية.

وكلّ ذلك يجري بهدف التوسّع في التحقيق خارج المؤسسة العسكرية مع اشخاص تكون قد رسَمت لهم التحقيقات الجارية أدوارَهم، سواء ممّن كانوا في ارض المعركة في عرسال أو أولئك الذين قادوا أيّ خطوة فيها من خارجها، سواء كانوا في مواقع السلطة او خارجها وصولاً الى المواقع السياسية والحزبية التي يمكن ان تطاولها التحقيقات.

ومن الطبيعي ان يقود التحقيق العسكري والميداني الى فتحِ البوابة الثانية التي ستؤدي الى توضيح بعض الوقائع، وعندها يمكن الوصول الى مرحلة إشراك المعنيّين بالملف من مجلس الوزراء مجتمعاً ووزراء ونوّاب في مواقع المسؤولية وآخرين في مواقعهم السياسية والحزبية، وهنا تكمن المخاطر المترتّبة على آليةٍ من هذا النوع.

وممّا لا شكّ فيه أنّ كلّ هذه الوقائع وما سيواكبها من «ضخّ إعلامي» منظّم سيواكب سيرَ التحقيقات التي لم يثبت يوماً أنه يمكن إجراؤها في الخفاء، إذ ستبدأ ومعها الأحكام عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي مع ما سيرافقها من تعليقات وموجات تحريض وردود متبادلة، ما قد يضع البلاد المنقسمة والمفروزة على نفسها تجاه ما جرى ويجري في عرسال ومنها الى العراق وسوريا، وربّما الى اليمن والبحرين والسعودية وغيرها من مناطق التوتّر التي تشهد مواجهات اسلامية ـ اسلامية دموية تعزّز الانقسامات المذهبية بين السنّة والشيعة.

ويرى المراقبون أنّ مسار الأوضاع كما هو متوقّع سيقود البلاد حتماً إلى إرباك سياسي وربّما أمني يهدّد ما تَحقّق من استقرار داخلي، ومَن يدري، قد يقود الى تفكّكِ المؤسسات وأوّلُها الحكومة المهدّدة بهذا التوجّه الذي لا يمكن إبعاد الصبغةِ المذهبية عنه، فنحن لسنا في واشنطن ولا في تل ابيب لنُخضِع المسؤولين الكبار ومن يتمتّعون بالحصانات الكبرى الى التحقيق في الكونغرس او لجان التحقيق العسكرية.

وبناءً على ما تَقدّم لا يمكن من الآن التثبُّت من عدم القدرة على ضبطِ التطوّرات التي قد تتّخذ أشكالاً مختلفة سياسية وأمنية. وكلّ ذلك سيجري على وقع سيلٍ من الأسئلة التي ستَطرح نفسها. ومنها على سبيل المثال:

ـ ماذا يمكن ان يكون الجواب إنْ وصَل الأمر الى البحث في الأسباب التي أتت بالنازحين السوريين بهذا الحجم إلى لبنان؟ وهل هناك لبنانيّون وجّهوا الدعوة اليهم لزيارتنا؟ وما هي انعكاسات تورّطِ اللبنانيين في الأزمة السورية؟

وهل تُقاس أعمال أمنية فردية، أو على شكل مجموعات صغيرة قام بها البعض منهم في الداخل السوري ومقارنتُها بمشاركة «جيش المقاومة» لـ«حزب الله» بما يَمتلكه من قدرات عسكرية وقتالية مدرّعة وصاروخية فاقت تسلّحَ الجيوش النظامية؟

وختاماً، ستبقى الأسئلة الأهمّ والأخطر: من سيَضبط هذه العملية بكلّ مساراتها؟ ومن هي الجهة الرادعة إنْ خرَجت الأمور الى تصفية حسابات قديمة يبدو أنّ البعض لم ولن ينساها؟ ومن سيُحاصر المفاجآت التي يمكن ان تأتي بها الوثائق والمعلومات التي غَفلها البعض أو قصَد أن يتناساها؟

ومن يمكنه أن يقدّر من الآن ما يمكن حصرُه ومحاصرته؟ وما الذي سينفع بعد فواتِ الأوان؟ وهل هناك مجال أن ينفي أحدٌ إمكان ترجمة مقولة «عليّي وعلى أعدائي يا رب؟!».