الصفقة الفضيحة تأتي كتأسيس للمرحلة الجديدة من الصراع في المنطقة، وحزب الله باعتباره امتداداً للبنية الإيرانية في المنطقة العربية، يقع عليه دور تنفيذ السياسات الإيرانية في سوريا ولبنان وترميم العلاقات مع تنظيمات إسلامية
 

الصفقة التي أنجزها حزب الله مع تنظيم داعش لإخراج ستمئة مقاتل ومدني من هذا التنظيم من لبنان إلى الرقة السورية، بدت مفاجئة للكثيرين، لا لكونها صفقة بدت الدولة اللبنانية خارجها فعلياً، أو لأنّها أنجزت لصالح هذا التنظيم في جرود القاع على الحدود مع سوريا الذي كان محاصراً من قبل الجيش اللبناني من جهة والجيش السوري من جهة ثانية، إذ كل الخبراء العسكريين يؤكدون استحالة نجاة هؤلاء المقاتلين إلا بالاستسلام أو بصفقة تكشف هزيمتهم، لا بخروج آمن مقابل كشفهم عن مكان دفن العسكريين اللبنانيين الذين قتلوا ودفنوا من قبل هذا التنظيم قبل سنتين. المفاجأة هي الصفقة الفضيحة التي أدارها حزب الله بالتنسيق مع نظام بشار الأسد لاستنقاذ مقاتلي داعش، على الرغم من أن حزب الله لطالما كان يشيطن كل من يحاول الإعلاء من الشأن الإنساني خلال مواجهات المرحلة السابقة أي منذ انفجار الثورة السورية.

الحس الإنساني غير المسبوق على مدار البيانات التي أصدرها حزب الله بشأن الأزمة السورية، لم يسبق أن كان واردا، فقط حين تم إيقاف قافلة داعش على مقربة من الحدود العراقية من قبل الأميركيين ومنعها من التقدم قبل أيام، صدر عن حزب الله بيان يحذر من مجزرة قد ترتكب بحق قافلة مقاتلي داعش وعائلاتهم.

لم تستفز حزب الله براميل الأسد ولا حصاره مدينة مضايا وتجويعها، ولا تدمير مدينة القصير وتهجير أهلها، ولا الصواريخ الروسية التي دمرت المستشفيات وقتلت المدنيين في حلب وغيرها، فقط احتمال أن تقصف الطائرات الأميركية قافلة داعش فجّر الحس الإنساني لدى حزب الله فحذّر من وقوع مجزرة.

لكن هل كان حزب الله يعتقد أنّ القافلة التي انطلقت من جرود القاع اللبنانية إلى الحدود العراقية عبر الأراضي السورية، أي ستقطع مسافة توازي 500 كيلومتر، لن تتعرض لأي عوائق أميركية؟ وهل الاعتراض الأميركي للقافلة غير متوقع أم أنّ الأميركيين أخلوا باتفاق هم طرف فيه؟

لم يقل حزب الله ذلك ولا الأميركيون تحدثوا عن اتفاق جرى معهم، لذا فإن الاعتراض الأميركي غير مستغرب ويفترض أن يكون حزب الله مدركا أن القوات الأميركية ستعرقل الاتفاق لأي سبب كان، من هنا يمكن أن نسأل لماذا قام حزب الله بهذه الصفقة رغم توقعه لاحتمال مثل هذا الذي جرى في البادية السورية من قبل الطائرات الأميركية؟

ليس خافياً أن المرحلة التي يجري رسم خطوطها ومعالمها في المنطقة اليوم، هي مرحلة ما بعد نهاية تنظيم داعش، حيث مختلف القوى الإقليمية والدولية تتحضر لهذه المرحلة. المحور الإيراني ينشط على هذا الخط بشكل يعيد فيه ترتيب الأعداء والخصوم والأصدقاء والحلفاء، خصوصا أن إيران التي استنفدت ورقتها المذهبية إلى الحد الأقصى، باتت اليوم مع توقع نهاية تنظيم داعش تدرك أنّ هذه الورقة ستتراجع قوتها لا سيما مع بروز مواقف عراقية ذات ثقل شيعي تحاول رسم معالم سياسة وطنية عراقية غير تابعة لإيران ومنفتحة على محيطها العربي، وكانت زيارة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر إلى المملكة العربية السعودية ولقاؤه ولي العهد محمد بن سلمان رسالة عملية في هذا الاتجاه، وإلى جانب هذه الخطوة برزت مؤشرات عدة تصب في هذا المنحى وتتم تحت الغطاء الأميركي.

وكما العراق فإنّ المعادلة السورية بعد داعش تتجه نحو ترسيخ شراكات إقليمية ودولية بإشراف روسي أميركي سيفرض اصطفافات جديدة، وكان المشهد القطري في تداعيات الأزمة الخليجية أعاد تنشيط العلاقة الثلاثية بين تركيا وقطر وإيران.

الصفقة تأتي كتأسيس للمرحلة الجديدة من الصراع في المنطقة، وحزب الله باعتباره امتداداً للبنية الإيرانية في المنطقة العربية، يقع عليه دور تنفيذ السياسات الإيرانية في سوريا ولبنان، وعلى صعيد دوره في ترميم العلاقات مع تنظيمات إسلامية.

المحور الإيراني يدرك أن شرخا عميقا قد طال علاقاته مع التنظيمات الإسلامية السنية، وهو اليوم انخرط في إعادة ترميم ما يمكن ترميمه من علاقات معها، مستفيدا من البوابة القَطرية والعلاقة مع تركيا، فبحسب المعلومات فإن إيران أعطت توجيهات لأذرعها في المنطقة العربية لإعادة الاعتبار لخطاب المواجهة مع واشنطن، وردم الهوة مع تنظيمات إسلامية كجماعة الإخوان المسلمين. وفي هذا السياق حققت إيران تقدماً على صعيد العلاقة مع حركة حماس عبر حزب الله، وأتاحت لهذا التنظيم وقياداته مساحة من الحركة والاستقرار في لبنان إثر نشوب الأزمة الخليجية مع قطر.

إيران تريد من خلال رفع شعار التنافس والتزاحم مع واشنطن في المنطقة، ردم الهوة المذهبية التي تسببت بها على قاعدة جذب هذه الجماعات الإسلامية السنية إليها، ودائماً على إيقاع استمرار الحرب والتوتر بأوجه جديدة لا يحمل في طياته أيّ مشروع استقرار بقوم على أساس الدولة الوطنية، فإستراتيجية إزالة الحدود لحساب الفوضى مستمرة إيرانيا لكن هذه المرة بأدوات جديدة.

إعادة خلط الأوراق بما يوفر لإيران دوراً مرجعياً في المنطقة يتطلب بعد نهاية تنظيم داعش أن تحيّد إيران عنها خطر العداء في البيئة السنية والذي نشأ بشكل واضح، على سبيل المثال لا الحصر، مع انخراط إيران في الدفاع عن نظام الأسد في مواجهة معظم السوريين، كما في دورها في العراق الذي زاد من عداء السنة لدورها الإقصائي لهم من معادلة السلطة. هذا ما تحاول إيران استثماره مستفيدة من فراغات في السياسة العربية، لكنها وهي تطمح إلى هذا الدور تريد من خلال توجيه رسائل ايجابية عبر تنظيم داعش أو جبهة النصرة أن تشير إلى أنّها طرف قابل لأن ينجز تفاهمات علنية مع هذه الجماعات، وفي نفس الوقت تختبر مدى قدرتها على إعادة اختراق الوعي الإسلامي العام من خلال القول إنّ النظام الإسلامي في إيران يمكن أن يكون سندا للعديد من التنظيمات الإسلامية السنية الملاحقة إما عربيا وإما دوليا.

لا يمكن النظر إلى الصفقة بين حزب الله وداعش في لبنان من خارج هذه الزاوية الأساسية في ما تنطوي عليه من أهداف، بالطبع لم تكن إيران في سوريا في مواجهة مع تنظيم داعش بل إن المواجهة الفعلية كانت دائماً مع التنظيمات المعتدلة في المعارضة السورية، لكنها استخدمت عنوان التكفيريين والإرهابيين في سياق شيطنة الثورة السورية وعززت من حضور التنظيمات الإرهابية التي طالما كانت أقل خطراً عليها من أيّ مشروع سوري وطني أو عربي معارض.

بدأت اليوم مرحلة صوغ مشروع يقوم على تجميع الإسلاميين في المنطقة العربية تحت المظلة الإيرانية، وهو طموح دونه صعاب كثيرة منها أنّ السياسة الإيرانية في المنطقة العربية تحتاج لإعادة ترميمها وبناء الثقة مع محيطها العربي إلى ثورة إيرانية جديدة تغيّر صورة إيران لدى الشعوب العربية قبل صورتها لدى السلطات والأنظمة.