إعادة اكتشاف السيد موسى الصدر :


تمثل تجربة الكتابة عن فكر الإمام موسى الصدر وفقهه؛ بالنسبة لي؛ اكتشافاً مذهلاً، حفّزني لقراءة معظم التراث الثقافي و الفكري للسيد المغيب ، إضافة الى ما كتب عن نبوغه الفقهي والفكري، وتحديداً ما كتبه كبار فقهاء قم والنجف الاشرف، وهو ما يثير الدهشة .
إن أجيال الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات بحركيّيها ومثقفيها ـ تحديداً التي تنتمي  جغرافياً الى المنطقة العربية ـ  تكاد تنحصر مرجعيتها الفكرية الإسلامية برموز ظلت أفكارها تُقرأ وتُدرس وتُشرح خلال ما يقرب من خمسين عاماً ، ومن أبرزها: السيد محمد باقر الصدر ومالك بن نبي والشيخ مرتضى مطهري والدكتور علي شريعتي وسيد قطب والشيخ ابو الاعلى المودودي والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم. وأسباب ذلك كثيرة. وليس بين هذه الرموز ـ للأسف ـ السيد موسى الصدر. أي أن جيلنا لم يتعرف على موسى الصدر المفكر والفقيه؛ بل ظل يبهره موسى الصدر القائد الإجتماعي والسياسي والحركي والمناضل، وظلت تبهرنا أساليبه ومنهجه في العمل. وبالتالي كان السيد موسى الصدر ظاهرة متفردة على مستوى الإجتماع السياسي؛ لبنانياً وشيعياً وإسلامياً، وهذه تحديداً هوية السيد موسى الصدر الذي عرفناه؛ بسبب طغيان البعد السياسي والإجتماعي والحركي والجهادي على شخصيته،  والذي حال دون تسليط الضوء على البعد الفقهي والفكري فيها، إضافة الى أسباب تقنية أخرى سنأتي عليها.
تجدر الإشارة هنا الى أن صديقين حميمين للسيد موسى الصدر لم تعرفهما هذه الأجيال  ـ غالباً ـ إلّا قيادات إسلامية ميدانية أيضاً؛ الأول: السيد محمد حسين بهشتي في ايران، والذي ترك مؤلفات معمقة في الإقتصاد الاسلامي والفكر الفقهي والتجديد الفكري والفلسفة الإسلامية، والثاني: السيد محمد باقر الحكيم في العراق، والذي له باع طويل في علوم القرآن والفقه السياسي الاسلامي والفكر الفقهي. هذه الشخصيات الثلاث (الصدر والبهشتي والحكيم) عاشت بيئة إجتماعية وسياسية ودينية متشابهة تقريباً، وجمعتها صداقة مشتركة، وفرضت عليها الظروف أن تتفرغ للشأن العام السياسي والنهضوي والثوري، وبالتالي حالت هذه الظروف دون تسليط الأضواء عليهم كفقهاء ومفكرين.
ولاشك أن شخصية موسى الصدر الفقيه والمفكر ظلت معروفة في وسط معين؛ هو الوسط الحوزوي الذي رافق رحلته العلمية في قم والنجف الاشرف؛ ومعظمهم من أستاذته و زملائه و أصدقائه، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال الشهادات التي سجلوها، بل أن هناك إجماعاً عند هؤلاء بأن السيد موسى لو بقي في النجف الاشرف لكان مرجعاً للطائفة وأحد  أساطين التجديد في الفقه الإسلامي، ولخطف رتبة الأعلمية بين المرجعيات الدينية النجفية.


ملامح التكوين الفكري والفقهي للسيد موسى الصدر :


هناك عشرات الشهادات من فقهاء كبار تؤكد أن السيد موسى الصدر ( ولد عام 1928) كان مجتهداً حين ترك قم الى النجف الاشرف عام 1954، اي انه بلغ درجة الاجتهاد وهو في اوائل العقد الثالث من عمره (21-24 سنة). وكانت دراسته في الفقه والاصول والمنطق والفلسفة على كبار فقهاء قم وفلاسفتها ، كالسيد حسين البروجردي والسيد محقق داماد والعلامة الطباطبائي والامام الخميني. وفي النجف الاشرف قويت لديه ملكة الاجتهاد، وأصبح لرأيه الفقهي حضور في دروس " البحث الخارج " ( وهي اعلى مراحل البحث العلمي والتخصص  الفقهي والاصولي في الحوزة العلمية)، ولاسيما بعد أن  حضر سنوات عدة دروس السيد محسن الحكيم والسيد ابوالقاسم الخوئي والشيخ محمد رضا آل ياسين . 
وعلى مستوى تكوينه الفكري ، فانه كان يشكل مع عدد من اصدقائه وزملائه في قم ظاهرة ثقافية وفكرية غير عادية، تعبر عن نفسها من خلال المحاضرات والندوات وجلسات البحث الفكري والمقالات وغيرها . وتزامن ذلك مع انفتاحه على الاجواء الثقافة والفكرية خارج الحوزة ، والمتمثلة في الوسط الجامعي ، وتحديداً دراسته في كلية الحقوق.
وفي النجف الاشرف انخرط السيد موسى الصدر في الاجواء  النخبوية الفكرية والثقافية والادبية . والنجف  هي في الواقع حاضرة أدب وثقافة وفكر اضافة الى كونها حاضرة علم ، فكان لهذه الاجواء تأثيرها في تعميق بنيته الفكرية وتنويع تجربته الثقافية . وهكذا فانه حين عاد الى قم اسس مع بعض زملائه واصدقائه اول مجلة علمية  وفكرية في تاريخ قم سماها "دروس من المدرسة الاسلامية " ، وكتب فيها العديد من البحوث ولاسيما في الاقتصاد الاسلامي ، وكان يعبر فيها عن رؤاه الفكرية والفقهية.
ومن هنا فان ستة عشرعاما من التأهيل العلمي والفقهي والفكري المتواصل في قم والنجف الاشرف، والمدعوم بالنبوغ المبكر والذكاء الحاد والعقل الابداعي والانفتاح الفكري والثقافي، خلقت من السيد موسى الصدر فقيهاً ومفكراً مبدعاً.

د. علي المؤمن
القسم الأول