«ما جرى في جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع، وطرد الارهابيين منها، جزء أساس من مسلسل التحولات التي تشهدها المنطقة».
 

بهذه الخلاصة، يستهلّ مرجع سياسي قراءته للعملية العسكرية المزدوجة التي شُنّت من الجانبين اللبناني والسوري ضد المجموعات الارهابية. ويقول: «انّ النتيجة التي انتهت اليها بطرد ارهابيي داعش والنصرة من الجرود ستكون لها ارتداداتها الايجابية على المشهد الداخلي بشكل عام، وكل الاطراف، بمَن فيهم اولئك الذين نزلوا الى حلبة السجال، سيجدون انفسهم مضطرين، وفي وقت غير بعيد، للخضوع لهذا الانتصار الذي تحقق - بصرف النظر عمّن حققه، سواء الجيش اللبناني او «حزب الله» - وللتكيّف معه والانصياع لمفاعيله التي ستظهر حتماً على المشهد الداخلي، وهذا لا يعني بالضرورة انّ تلك المفاعيل ستؤدي الى تغيير او تعديل في الصورة السياسية القائمة».

يلفت المرجع المذكور الى انه «يفهم أبعاد رفع السقف السياسي والسجالي من قبل بعض الاطراف على حافّة ما جرى في الجرود، الا انه رغم الصوت العالي الذي يُقدَّم فيه الخطاب من هذا الطرف او ذاك، يبقى محكوماً بضوابط كل طرف، بما يحصره بمفاعيل صوتيّة ومن النوع الذي يمكن ان يؤثر ولو بشكل طفيف جداً على المعادلة القائمة. وبالتالي، هو جزء من الفولكلور السياسي اللبناني الذي يحكم البلد، واعتاد عليه اللبنانيون منذ سنوات طويلة».

من هنا، يضيف المرجع: «كنت أفضّل لو انّ الاطراف كلهم عزفوا على وتر الانتصار على الارهاب، لا ان يظهر طرف وكأنه انتصر، وطرف آخر وكأنه انهزم، مع انّ الربح الحقيقي ممّا جرى هو لكل لبنان». ثم يستدرك ويقول ممازحاً: «أنا في الحقيقة أتفهّم أسباب البعض ودوافعه للنزول الى حلبة السجال مع طرف آخر يعتبره خصماً لدوداً له. «يِلعَن بَيّ الانتخابات شو بْتَعمِل».

لكنني في الوقت ذاته، اشعر وكأنّ هناك مَن يشعر بالخسارة، لا يعني كلامي هذا بأنّ هذه الخسارة مرتبطة بهزيمة «داعش» و«النصرة» في الجرود، بل هذا الشعور بالخسارة، مردّه في رأيي، الى انّ الطرف الذي يشعر بالخسارة، يعتبر انّ ربح الطرف الآخر الذي تربطه به خصومة شديدة، هو خسارة حتمية له. وهو شعور طبيعي، اذ اننا في لبنان، لا نتحمل خسارة مباراة في كرة القدم... فكيف هو الحال مع ما جرى في الجرود»؟

على ايّ حال، والكلام للمرجع نفسه، ربما استعجل بعض الاطراف في التعبير عن مشاعرهم، بما لا ينسجم مع صورة المشهد الداخلي التي صاغَتها معارك الجرود، وكذلك مع الوقائع البالغة الاهمية والدلالة، المحيطة بها:

• اولاً، الواقع المريح الذي فرضه طرد الارهابيين من الجرود على مجمل الصورة الداخلية من أقصى لبنان الى أدناه.

• ثانياً، الارتياح الدولي لتمكّن لبنان من تحقيق هذا الانجاز في «الجُرُودَيْن». ونظراً لاعتبارات هذه الدول، فهي لا تجاهر علناً بما تقوله بعثاتها الديبلوماسية داخل الغرف. وأنا شخصياً سمعت من الاميركيين والفرنسيين والبريطانيين تمجيداً صريحاً ومباشراً بالحرب على الارهاب في الجرود وبالانتصار عليه. وأكثر من ذلك، يُسْدون النصائح بضرورة وأهمية استفادة لبنان من الوضع الجديد الذي دخل فيه، والتأكيد على الاستقرار السياسي والامني.

• ثالثاً، خريطة التحولات العميقة التي تشهدها المنطقة وكل ميادين القتال من العراق الى سوريا وصولاً الى الجرود في لبنان. هنا يكمن المشهد الذي يستوجب تسليط الانظار فيه والتعمّق في تقلباته المتسارعة، وليس الدخول في نطاق داخلي ضيّق والتركيز على تفاصيل سياسية شكلية لا تقدم ولا تؤخر.

بناء على ذلك، يكشف المرجع نفسه، انّ سفير دولة كبرى معنيّة مباشرة بالشأن السوري، أبلغه قبل وقت قصير انّ المنطقة دخلت عملياً في مرحلة إنضاج التسويات. وفي سياق ذلك، يُعاد ترتيب الاولويات والملفات فيها على المستوى الميداني، واستتباعاً على المستوى السياسي.

وبالتالي، كل الملفات او الجبهات باتت مترابطة من العراق الى سوريا فلبنان. وكل ذلك يجري بالتكافل والتضامن والشراكة بين الطباخَين؛ الاميركي والروسي، اللذين برغم المستوى العالي من الخلافات بينهما على مستوى الدولتين، فهناك تنسيق ميداني بينهما في أكثر من مكان في سوريا.

مقاربة السفير المذكور هذه، يبدو انها وقعت على مسمع بعض الاطراف في لبنان، ما زرع الخشية لديهم من إمكان ان يؤدي ترتيب ملفات المنطقة الى اعادة رمي لبنان، إن عاجلاً او آجلاً، في عصر الوصايات المباشرة من جديد، ولا سيما الوصاية السورية.

وقد عبّر عن ذلك أحد أقطاب 14 آذار صراحة في مجلس خاص، الّا انّ هذه الخشية وصفها السفير بأنها مبنية على وهم وليس على الوقائع الجديدة التي نشأت في المنطقة، فصورة لبنان الحالية، هي هي لاحقاً، ولا قرار إقليمياً او دولياً في تعديل هذه الصورة او تغييرها. فضلاً عن انّ عصر الوصايات قد انتهى، ولا توجد امكانية لإحيائه مجدداً لا في لبنان ولا في غير لبنان.

وفي الحديث عن الخشية من عودة الوصاية السورية، فهي أصلاً غير مطروحة، لا بل هي صعبة جداً وغير ممكنة. صحيح انّ النظام السوري حقق ويحقق إنجازات في الميدان العسكري في سوريا، وتغيرت معادلات كثيرة على الارض، الّا انه لم يعد بالقوة التي كان عليها في السابق، والمخالب التي كانت موجودة لدى هذا النظام قبل الازمة، قد قلّمتها الازمة، بحيث لم تعد موجودة، وكل الاولويات السورية الآن ومستقبلاً محصورة فقط ضمن النطاق السوري، وليس الى ما بعد الحدود.

على انّ الحديث عن تسويات لم يقنع شخصية وسطية، اذ على رغم ظهور الروس مرتاحين في المنطقة وسوريا تحديداً، أكثر من كل اللاعبين الآخرين، الّا انّ احتمالَين يتجاذبان تلك الشخصية:

- الاحتمال الاول ضعيف، ويقول إنّ الاميركيين سلّموا بالأمر الواقع الروسي، وتحديداً في سوريا. وتبعاً لذلك، هم ذاهبون الى تسوية نهائية تخرجهم من هذا المأزق، وانهم كما وَرّطهم جورج بوش في حرب العراق، وَرّطهم باراك اوباما أكثر في الحرب السورية. وبالتالي، هناك بحث عن مخارج، قد تبدو شكلاً أنها تنطوي على تسويات او تنازلات من قبل الاميركيين، الّا انها في الجوهر تُريحهم.

- الاحتمال الثاني هو القوي والخطير، كما تصفه الشخصية الوسطية، اذ انّ عوامل التفجير الكامل للمنطقة ما تزال قائمة، والمحك الاساس في شهر ايلول المقبل، ولا سيما في موضوع كردستان، الذي قد يشكل لغماً كبيراً ينفجر بالمنطقة كلها في ايلول او «ايلول الاسود» وفق توصيف الشخصية المذكورة. وكرة النار في يد الاكراد، الذين إن أكملوا باندفاعتهم نحو الانفصال واعلان الاستقلال، فذلك لا يمكن ان يتم الّا بضوء اخضر اميركي، ومعنى ذلك انّ المنطقة ستنفجر، وتوضَع على منصّة التقسيم، وخطوة الاكراد هذه ستستفز حتماً الاتراك وكذلك الايرانيين الذين لن يسكتوا، وسيختلط حابل المنطقة كلها بنابلها.

تَخوّف الشخصية الوسطية، يتقاطع مع التخوّف الدائم الذي يُبديه رئيس مجلس النواب نبيه بري على وحدة العراق وسوريا، وممّا يسمّيه «تقسيم المقسّم». ويقول: لست مطمئناً ابداً.

وعندما يُسأل بري عمّا اذا كانت رياح التقسيم إنْ هبّت، ستطال لبنان، يقول: لبنان أصغر من ان يُقسّم، عندما تنفجر الذرّة تتفتت وتنشطر وتتحول الى جزئيات تستولد جزئيات، وهكذا... وحال لبنان كحال هذه الذرّة تماماً.