الذين يحاولون فهم دوافع منفذي العمليات الإرهابية في المدن الأوروبية في السنوات الأخيرة، يُرجعون ذلك احتمالاً إلى عناوين ودوافع رئيسة وأُخرى فرعية. أما الدوافع الرئيسة أو المباشرة فهي الثأر والانتقام من الدول والعناصر والمجتمعات «المعادية للدولة الإسلامية والمسلمين». وفي العادة فإنّ تنظيم «داعش» يتبنى هذه العمليات، مع اختلاف الأجهزة الأمنية في مدى الصلات وطبيعتها بين «داعش» والذئاب المنفردة، والتي قد يصل عدد المجموعة منها إلى العشرة أو أكثر قليلاً. ما الذي يعتقد «داعش» أو يعتقد هؤلاء المراهقون أنهم ينجزونه بقتل المدنيين؟ الواضح أنهم لا يفكرون مثل البشر العاديين. لذلك ينبغي إعادة النظر في مفهوم التشدد الديني لديهم، والفظاعة التي يتّسمون بها تجاه السكان في المناطق التي يسيطرون عليها. وهذا يعني أنه في البلدان الأوروبية أو الأميركية فإنّ الغاية تبرر الوسيلة. وقد قال لي واحدٌ منهم، لكنّ ميوله نصروية وليست داعشية: «عليك أن تكون قاسياً ولا تترك شيئاً للمصادفة وأنت تبني المجتمع الإسلامي الجديد بعد فسادٍ طويل»! أما المجتمعات الأوروبية فإنها أهداف جانبية أو صارت كذلك. في البداية كان المراد تجنيد الشبان للعمل في بلدانهم أو في «دار الإسلام». وما عاد العمل في دار الإسلام مقصوداً أو ممكناً، فعاد الهدف الأصلي الذي بدأه ابن لادن: الإضرار بفسطاط الكفر بقدر الإمكان. ويستطيع الشبان الذين كانوا سيأتون للرقة أو للموصل أن يستشهدوا في الديار الأوروبية للإضرار والثأر والانتقام. والواضح أن القرار ما عاد مركزياً حتى في سوريا والعراق، إما لأن البغدادي قُتل، أو لأن الظروف ضاقت فصار لابد من إعطاء القائد الميداني أو المحلي حريةً أكبر وأوسع، دونما إضعاف شديد للمركز بالداخل لضرورات التعاون والتواصل. أما في الخارج فقد صارت حلقات الشبكة شديدة الاستقلالية، وقد لا يعرف المركز بعملياتها إلا بعد وقوعها. وصار هناك مجال أوسع ليس لظهور الذئاب المنفردة فقط، بل ولظهور قادة محليين أومكوِّني حلقات صغيرة مثل حلقة برشلونة أو حلقة بلجيكا أو حلقة إسطنبول من قبل.
قال لي مسؤولون ألمان كانوا بوزارة الداخلية إنّ عندهم بألمانيا ثلاث جهات إرهابية: الإسلاميون المتطرفون، والنازيون الجدد، واليساريون المتطرفون. ومن التعامل معهم يتبين أن الأكثر ميلاً للتوبة النازيون، ويأتي بعدهم الإسلاميون، أما الأشرس والذين لا يرجعون ولا يراجعون فهم اليساريون المتشددون. وعندما وصل الحديث إلى دوافع الإسلاميين وأنها الثأر والانتقام للتهميش أو للاستعمار والتغريب أو للحروب الحالية في العالمين العربي والإسلامي، ذكر الضابط الكبير السابق أنّ هذه التعليلات جميعاً حاضرة، إنما هناك دافع أعمق لدى الأكبر سناً بعض الشيء ولدى المسلمين الجدد من بينهم: إنهم يريدون «الجهاد»، ويعتقدون أنهم يُذنبون إنْ لم يفعلوا ذلك! وهم ما يزالون يفضّلون أن يكون الجهاد خارج أوروبا، إلا إذا اضطروا لذلك. أما الذين يقومون بأعمال عنيفة في المدن، ويبدو أنهم خططوا لها طويلاً فليسوا «جهاديين» حقاً، وقد يكونون ذئاباً منفردة وقد يدفعهم لذلك حب الظهور أو الزعامة المحلية التي اقتنصها أحدهم على زملائه مثل مجموعة برشلونة.
وهناك تغير مُريع في نفسية الألمان وردود أفعالهم على العرب والمسلمين. فقد أطلعوني على كتيبات ومنشورات توزعها الجمعيات المدنية على العائلات وفي وسائل الإعلام للإرشاد والتحذير: إذا تغير سلوك الفتى أو الفتاة فاعتنق الإسلام وصار يقرأ القرآن كثيراً أو يميل للعزلة، أو يُعرض عن أصدقائه ويختار أصدقاء جدداً، أو يذهب لمساجد معينة أو يربي لحيته.. إلخ، فيكون مستحسناً تنبيه الجمعيات المدنية أو الدينية لكي تقوم بمحاورته أو الحديث معه للاستنتاج هل لديه دوافع عنف أو اندفاعات، أم أن الأمر قاصرٌ على التعبد، وعندها لا بأس! وقد يخاف الأهل، أو يخاف المتشدد إذا اتصل به الأمن، لذلك فالأفضل اتصال الجهات المدنية، والتي لا تستعين بالبوليس. وسألت: هل هذا السلوك تفاصيله معروفة في البلدان الأوروبية الأُخرى؟ فقالوا: لا، بل الأمر هناك أعجل من هذا!