​كان العدل وإسعاد الناس في نظر عمر بن عبد العزيز أولى من تذهيب المساجد وزخرفتها وكان الأمويون قبله يكرهون لأن يدخل الإسلام أحد من أهل الذمة
 

في كتابه "وعَّاظ السلاطين" قال الدكتور علي الوردي:  "جاء الإسلام ليقضي على الكسروية فأقام محلها كسروية أخرى، ولم تختلف الكسرويتان إلا بطلاء خفيف من الطقوس الدينية، تلك كانت تستعبد الناس باسم هرمز، وهذه تستعبد الناس باسم الله الواحد القهار... "
من خلال هذه المقولة الرائعة التي لا تحتاج إلى حشد من الأدلة والروايات لإثباتها، لأنَّ التجارب التاريخية من أهم الأدلة القوية التي تزيد الإنسان في التعقل والتدبر والتأمل، كما ورد عن الإمام الحسين الشهيد (ع) أنه قال:"التجارب زيادة في العقل" لذلك عندما نريد أن نقارن في سياسة الخليفة عمر بن عبدالعزيز وبين أغلبية الفقهاء الذين تبوؤا كرسي الخلافة والولاية، يتبين لنا زهد الخليفة ابن العزيز، فهو حاول أن يرجع الأمور إلى ما كانت عليه في زمن أجداده وزمن الخلفاء الراشدين وسار في ذلك سيرة عظيمة إلاَّ أن المنية عاجلته في فترة خلافته القصيرة قبل أن يتم ما شرع به، والله على كل شيء قدير.
 هنا سأعتمد على المصادر التاريخية ويكفي ذلك المصدر الآنف الذكر.

إقرأ أيضا : سياحة فكرية في عالم يوسف وآدم (ع) وإبليس ؟
 أولاً: منع الشعراء من الوقوف ببابه وأعلن أنه لا يقبل الشعر ولا يقابل الشعراء، واعتبر جوائز الشعراء سرقات من بيت مال المسلمين.
وثانياً: أدنى إليه الفقهاء والزهاد وأبعد عنه الجلاوزة، أولئك الذين كانوا يعبدون الله وينهبون عباد الله،فقد عزل كل رجل ولغ في دماء المسلمين، وأمر بعزل كل ظالم وإن كان ذا قرابة لأمير المؤمنين.
ثالثاً: ورد جيوشه في الثغور فعطَّل الفتوح التي كانت تخترق أوروبا من الشرق والغرب، فخالف سياسة الفتوح لأنه كان يشهد تلك الفتوح لم تكن في سبيل الدين، فهي قد ارتدت كلها تطلب الثروة والسبايا والعبيد وصارت مربحة للأمراء والولاة على البلدان.

إقرأ أيضا : ضياع تفكيرنا الديني في تلفيق ثنائيات متنافرة
 رابعاً: كان يعتبر العدل الداخلي أهم من التوسع الخارجي.
 خامساً: منع سب الإمام علي(ع) في خطب المنابر وفي الصلاة.
 سادساً: نظر إلى الكعبة ومسجد المدينة ومسجد دمشق فوجد فيها صفائح الذهب وسلاسل القناديل والرخام والفسيفساء، فقال:"رأيت أموالاً أنفقت في غير حقها، فأنا مستدرك منها فرادة في بيت المال، أعمد إلى ذلك الفسيفساء والرخام فأقلعه وأطيِّنه، وأنزع تلك السلاسل وأجعل مكانها حبالاً، وأنزع تلك البطائن وأبيع جميع ذلك من مسجد المدينة ومسجد دمشق".

إقرأ أيضا : هذا كفر ؟!
 كان العدل وإسعاد الناس في نظره أولى من تذهيب المساجد وزخرفتها وكان الأمويون قبله يكرهون لأن يدخل الإسلام أحد من أهل الذمة لئلا تنقص الجزية، وقد لجأوا أخيراً إلى أخذ الجزية من الذين يدخلون الإسلام منهم، فلما جاء ابن العزيز منع ذلك وقال: "إنَّ الله بعث محمداً داعياً ولم يبعثه جابياً"  ومنها أيضاً أنه ساوى بين العرب والموالي في العطاء، وجيء إليه ذات يوم بسارق فشكا السارق حاجته، فعذره وعفاه من العقاب وأمر له بنحو عشرة دراهم.
 كل ذلك خلال فترة  سنتين من خلافته ودسَّ له السم وقتل مسموماً . لقد أودت بنا التجربة الدينية المعممة إلى قاعٍ عميق من الأزمات المتعددة الوجوه والأشكال، وهي تحفر عميقاً في تربتنا لإسقاطنا في حفرها وإدخالنا في مقابر الفقر والموت، لم نقرأ في سيرة النبي محمد(ص) إنه قدَّس قماش قريش أو دعا إلى زخرفة معبدٍ أو مسجدٍ أو حسينية للوعظ وشعبه يعاني البؤس والشقاء، أو دعا إلى بناء قببٍ مطليةٍ بالذهب وشعبه يعاني جوعاً ومرضاً، فمتى يأتي علينا دور الأموات في الشرق لتفتح خزائنها وتخرج منها عجائب الكنوز، فلا يبقى على الشفاه يباس، ولا في البطون طوىً، ولا في الأدمغة تحجُّر.