استقبلتْنا في الأيام الماضية مؤسسة ألمانية تساعدنا في دار الفتوى بلبنان على تطوير برامج للتعامل مع التطرف في أوساط الشباب، ولدى المسجونين لتُهم تتعلّق بالإرهاب. وهذه المرة كان الاستقبال في ألمانيا، للتشاور مع المسؤولين هناك في التجربة التي يخوضونها مع الشبان المسلمين من خلال الجهات الدينية الراعية. ويخوضونها مباشرة مع المسجونين بتُهَم تتعلق بالإرهاب.
يقيم في ألمانيا زُهاء الخمسة ملايين مسلم، ولا يحدّثك الألمان عن عدد الذين يراقبهم البوليس بالطبع، لكنّ المسجونين منهم بتُهم تتعلق بالإرهاب لا يزيدون على الـ120. وقد قال لهم المسؤول الأمني اللبناني الذي كان يرافقنا إنّ عدد المسجونين بلبنان بتُهم تتعلق بالإرهاب يبلغ عددهم نحو الألف، وقد أفهمنا الألمان أنهم يعملون بثلاثة أساليب: التدخل من خلال الجمعيات الإسلامية المتعاونة المشرفة على المساجد، وعلى مدارس تعليم القرآن، والتدخل لدى الأئمة الذين كان معظمهم من تركيا بسبب ضخامة أعداد الأتراك بألمانيا، وللعلاقة الطيبة مع الحكومة التركية التي كانت ترسلهم لرعاية مواطنيها. ثم وفي السنوات الأخيرة، أُنشئت عدة أقسام بالجامعات الألمانية لتخريج أئمة على أيدي أساتذة مسلمين، مثلما هو الحال مع الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية منذ ثلاثينات القرن الماضي، بمعنى إنفاق الدولة من خلال الجامعات على تربية وتعليم القساوسة والكهنة. وبذلك لا يعود الأئمة تابعين لأي جهة خارجية، وتكون لغتهم الألمانية أفضل، إضافة بالطبع لمعرفتهم باللغات الأصلية العربية أو التركية أو الأوردو أو الإندونيسية... الخ. وهذا التدخل، والذي يقوم به إلى الجمعيات والأئمة علماء نفس وخبراء في العمل الاجتماعي ومختصون في الدراسات الإسلامية هدفه أمران: التشجيع على الاندماج، والوقاية. وهذان العملان يستمران وبشكلٍ مباشرٍ في السجون وبعد الارتكاب.
ومع أنّ المسؤولين الأمنيين الألمان يعتبرون الإرهاب ذا الدوافع الدينية الإسلامية هو الأخطر اليوم، فإنهم لا يُسمُّون المسجونين الآن (الـ120): متطرفين إسلاميين، أو إرهابيين إسلاميين، بل يسمونهم إرهابيين وحسْب، لأنّ عندهم نوعين آخرين من الإرهاب: اليمين المتطرف أو النازيون الجدد، واليساريون المتطرفون، وكلا الطرفين يرتكب أعمالاً إرهابية، والمسجونون منهم أكبر عدداً من مسجوني الإرهاب الإسلامي.
ويعتبر الألمان أنهم أتقنوا عمليات مكافحة الإرهاب، وأنهم صاروا قادرين عليه بالأمن وبالتدخل الذي تحدثنا عنه. لكنهم لا يزالون في شكٍ من أمر التطرف وكيف يحدث، ولماذا. فقد عاش المسلمون معهم منذ الخمسينات وما كان بينهم متطرفون. ولذلك فمن النادر أن تجد ألمانياً خبيراً يعتبر العنف من أصول الإسلام. ومع ذلك أو بسبب ذلك فهم يعتبرون التطرف والعنف الذي قد يصدر عنه، من صناعة غريبة جاءت من العالم العربي، أو من أفغانستان وشبه القارة الهندية. ولذلك نَعَوا أمامنا على المؤسسات الدينية، ولماذا ما كافحت الانشقاق بداخل الإسلام قبل أن يصبح ظاهرة عالمية!
هكذا دار حديثٌ طويلٌ تركّز على المؤسسات الدينية الإسلامية الكبرى. إذ الواقع أنّ تلك المؤسسات ما شعرت بخطر الإحيائيات الجديدة العقدية والسياسية على الدين. فقد بدأت أعمالها العنيفة ضد السلطات، واعتبرت مسألة أمنية. وقد كان ذلك خطأ فاضحاً ما تنبهنا إليه إلا بعد بدء القتل بداخل المسلمين. وكثيراً ما تجادلنا في أسباب «الغفلة» وطولها وبخاصة بعد مقتل وزير الأوقاف المصري عام 1977 على يد تنظيم: التكفير والهجرة، لأنه حرَّم استعمال العنف باسم الدين بداخل الجماعة لأي سبب كان! وعلى أي حال ومنذ قُرابة العقد من الزمان تعمل المؤسسات الدينية على أمرين: التأهل والتأهيل. والتأهل يعني التزود بالمعرفة وشحذ الإرادة، واستنهاض روح التطوع والرسالة. أما التأهيل فهو الانصراف إلى التبصير بخطر التطرف على الدين، ونصب أعيننا استعادة السكينة في الدين، واستنقاذ الدولة الوطنية، وتصحيح العلاقة بالعالم. وبالطبع فإننا نحن الأولى ببلوغ الهدف الأول، أما الأمران الآخران فهناك حاجة شديدة إلى تضامُن سائر الفئات وعملها معاً.
على أنّ خيبة الأمل الناجمة عن عدم التصدي بكفاءة للتطرف وسيئاته على الدين والمجتمع، لا تتناول المجالين العربي والإسلامي وحسْب، بل تتناول أيضاً المجال الأوروبي. فقد قضى معظم المهاجرين العرب والمسلمين الآخرين بأوروبا وأميركا ثلاثة أجيالٍ على الأقل. وبرزوا أو برز بعضهم في شتى مناحي الحياة. وكنا نأمل أن يؤثروا فينا لجهة الخروج من الجمود في الدين، وعدم الوقوع في التطرف، بسبب النماذج الأُخرى من الحياة التي عاشوا في ظلها وأنتجوا أو أنتج بعضهم. إنما الذي حصل العكس. فهناك قلة من الشباب حجبت سائر مجتمعات المهاجرين، وراحت تمارس العنف باسم الدين بداعي المظلومية والتهميش أو الانتقام. إنّ المروِّع أنه حدثت ظاهرتان متوازيتان تدلان على فشلٍ كبيرٍ في التجربة لدى نسْبة لا بأس بها من مهاجري الجيل الثالث؛ الأولى: الاندفاع باتجاه البلدان الأصلية بهدف البحث عن نموذج أو إنشاء نموذج للدولة. والثانية ممارسة العنف والانتقام من المجتمعات التي احتضنتهم، والتي جاء إليها آباؤهم وما تزال أجيالٌ تأتي وتلجأ. ولا شكّ أنّ النموذج المبحوث عنه وهمي، ولذلك فهو قاتل في كل الأحوال، للنفس وللآخر. إنما تبقى ظاهرة الانتقام من مجتمعات الهجرة غريبة بالفعل. عندما حدثت واقعة نيويورك عام 2001 قامت مجموعة من يمين الوسط الأميركي بكتابة إعلان أو بيان وجهوه للمسلمين عنوانه: من أجل ماذا نحارب؟ وعنوانه الآخر: لماذا يقتلوننا؟ وكانت إجابتهم عن السؤال الثاني: إنهم يقتلوننا لما نحن عليه من ازدهارٍ وحرياتٍ وديمقراطية، ولأننا مجتمعات مفتوحة، وإن لم تصدّقوا ذلك أو تقتنعوا به فأخبِرونا لماذا هذا القتل الفظيع؟! وما تردد اليساريون والإسلاميون في الإجابة لحظة، وراحوا يذكرون الاستعمار والإمبريالية وتصرفات الأميركيين في الحرب الباردة والعالم الثالث... الخ، كأنما كان أُسامة بن لادن وكيل الدفاع باسم العرب والمسلمين! لكنني في الوقت نفسه ما استسغتُ إجابة برنارد لويس والتي تراوحت بين «أصالة العنف» في الإسلام، أو الحسد نتيجة الفشل!
لا أسوأ من هذا الضعف في اللجوء إلى العنف لأدنى سبب. ولا أسوأ من هذا البحث عن نماذج قاتلة وعبثية للدين وللدولة. وتبقى المفاجأتان: أننا لم نكتشف الداء العُضال الذي تسلل إلى ديننا ودولنا وهو العنف باسم الدين. والمفاجأة الأُخرى أنّ أبناء المهاجرين تأثروا بالانشقاقات التي حدثت عندنا، وليس بالتجارب الناجحة التي عاشوا في ظلّها! ولا حول ولا قوة إلا بالله.