جواباً عن سؤال حول التطورات العسكرية التي تمثّلت بالقضاء على إرهابيي «جبهة النصرة» في جرود عرسال، وبالعملية المزدوجة الجارية من الجانبين اللبناني والسوري للقضاء على إرهابيي «داعش» في جرود رأس بعلبك والقاع والقلمون الغربي، إكتفى مرجع سياسي بالقول: «كل الواقع الاقليمي والدولي يتغير من حول لبنان، أنظروا الى خريطة المنطقة وتمعّنوا جيداً في التحولات السياسية والعسكرية... واستنتجوا»!
 

ما قاله المرجع السياسي مبنيّ على قراءة لمشهد المنطقة ربطاً بتطورات الميدان العسكري من العراق الى سوريا وبمواقف اللاعبين الأساسيَّين على حلبة الازمة، أي الروسي والاميركي، ويصل في كلامه الى خلاصات بالغة الدلالة تستوجب التوقف عندها مليّاً:

• كلّ الاولويات تبدّلت وكل «الفيتوات» سقطت بدءاً من الموصل ثم البادية السورية، ودير الزور وصولاً الى القلمون الغربي والحدود اللبنانية ـ السورية واخيراً وليس آخراً في معركة تلعفر في العراق.

• المنطقة دخلت، أو هي على باب الدخول، في عصر التسويات. واللاعبون الكبار ومعهم كل الاطراف المنخرطة في النزاع منذ سنوات، يتصرفون كما لو انهم في المرحلة النهائية من النزاع الدامي، وما يجري حالياً أشبه ما يكون بولادة قيصرية للتسوية او للتسويات على امتداد ساحات الأزمات.

• الروس أعلنوا صراحة قبل فترة غير بعيدة، أنّ الحرب انتهت، وهو إعلان لا يرميه الروس هباء.

• الاميركيون يتصرفون على اساس انّ الاجندة السياسية والعسكرية التي كانت المحرك الرئيسي في الجحيم السوري خلال حقبة الرئيس باراك اوباما قد تبدلت في حقبة الرئيس دونالد ترامب، لمصلحة أجندة اكثر براغماتية.

• لبنان جزء أساسي من حركة التطورات والتحولات الاقليمية والدولية، التي لم تأت معركة جرود عرسال وفليطا ضد «جبهة النصرة» منعزلة عنها، كذلك معركة جرود رأس بعلبك والقاع والقلمون الغربي ضد تنظيم «داعش». وهنا ينبغي لحظ كيف أنه وبسِحر ساحر، باتت كل الاطراف الداخلية في لبنان، بما تمثّله من امتدادات اقليمية ودولية متوافقة على ضرورة الحسم ضد الارهابيين.

والجميع يعلم انّ هذا التوافق كان مستحيلاً في فترة سابقة، وما من شك انّ هذا التوافق المرتبط بتلك التحولات، هو الذي وَفّر الظروف الموضوعية لانطلاق المعارك الاخيرة ضد «داعش»، والتي جاءت متزامنة من الجانبين اللبناني والسوري من الحدود، بصرف النظر عن الجدل العقيم والعديم الجدوى في شأن التنسيق بين الجيش اللبناني من جهة والجيش السوري و»حزب الله» من جهة ثانية.

• لا يمكن فصل ما يجري من عمليات عسكرية عند الحدود اللبنانية ـ السورية، عن الحراك السياسي والديبلوماسي المتعدد الاطراف، من زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري الى واشنطن قبل أسابيع الى زيارة وزير الدفاع اللبناني الى موسكو التي ستستضيف الحريري بعد فترة قصيرة، الى التقاطع الزمني الملفت للانتباه بين زيارة نائب وزير الخارجية الايراني لشؤون الشرق الاوسط وافريقيا حسين جابري انصاري وبين زيارة وزير الدولة السعودية للشؤون الخليجية ثامر السبهان، حيث لا يمكن النظر الى هاتين الزيارتين من بعدٍ لبناني فقط، بل من بعدٍ يتجاوز الداخل اللبناني ليطاول المشهد الاقليمي العام.

على انّ السؤال الاساس وسط ما يجري: أيّ واقع ستفرضه تلك التطورات والتحولات على لبنان؟

لا شك في انّ لبنان، وكما يؤكد أكثر من مستوى سياسي، سيكون اكثر المستفيدين من إطفاء نار الازمات من حوله وارتداداتها في داخله.

هذا التقدير بأنّ لبنان سيكون أكثر المستفيدين، هو جُلّ ما يتمناه مرجع كبير، الّا انه لا يثق بالعقلية السياسية السائدة، التي قد تجعل رياح ايّ إنجاز في الميدان او غير الميدان تجري في اتجاه عكسي. واكثر من ذلك هو يخشى مع هذه العقلية ان تضيع على لبنان فرصة تثمير هذا الانتصار بما يخدم البلد وبما يمكّن الدولة من استعادة نفسها كدولة كاملة المواصفات.

ولهذا المرجع قراءة يصفها بـ«البسيطة»، وفيها:

• «لقد قال الميدان كلمته في جرود عرسال وانتصر لبنان على إرهاب «جبهة النصرة» بصرف النظر عمّن حقّق هذا النصر، وسيقول الميدان كلمته ايضاً في جرود رأس بعلبك والقاع بانتصارالجيش اللبناني، اي انتصار لبنان على ارهاب تنظيم «داعش».

المهم هنا هو انّ لبنان خرج (أو سيخرج) من معركة الجرود منتصراً، والأهم من الانتصار نفسه هو أن يدرك اللبنانيون قيمة هذا الانتصار ويعرفوا كيف ينتصرون، ولعلها فرصة سانحة لكي يتبدّى فيها شعور عام بانتصار يعني جميع اللبنانيين، لا أن تتكرّر التجربة الانقسامية السابقة مثلما جرى عام 2000 حينما اختلف اللبنانيون بين فريق قال انّ المقاومة انتصرت على إسرائيل وفرضت عليها الانسحاب من جنوب لبنان، وبين فريق قال انّ اسرائيل هي التي قررت الانسحاب تبعاً لمصالحها واعتباراتها الداخلية.

وكذلك ما جرى بعد حرب تموز 2006 بين فريق قال إنه انتصر وأحبط اهداف هذه الحرب، وبين فريق لم يعترف بهذا الانتصار وما زال يشكّك به حتى الآن».

• لا تكمن أهمية الانتصار في تحقيقه في الميدان فقط، بل في كونه شكّل فرصة توحّد داخلي هو الاول الذي يحصل منذ سنوات طويلة.

• بقدر ما انّ الانتصار مهم، فالأهم هو تحصينه، باستغلال هذه الفرصة وإقرار الجميع جدياً بأنهم شركاء فيه، لا بل شركاء في إبعاد رقابهم عن مقصلة الارهاب التي كانت منصوبة في الجرود. وبالتالي، عدم تضييع هذا الانتصار في الكيديّات والمزايدات كالتي يجري التعبير عنها ودحرجتها من هنا وهناك. وهنا تقع المسؤولية الكبرى على السلطة الحاكمة كما على القوى السياسية كلها.

ولكن هل هذا ممكن؟

انّ مواكبة قوى الانقسام السياسي الداخلي لمعركة الجرود والانتصار الحتمي فيها، وكما يقول المرجع السياسي الكبير، لا توحي - بما يعتريها من تناقضات وتباينات - بأنّ الصورة الداخلية قابلة لأن يلفحها شيء من التبدل الايجابي. صحيح انّ هناك ارادة دولية للحفاظ على الاستقرار والامن في لبنان، وقد تَجلّت واضحة بشدة في زمن معارك الجرود، وصحيح ايضاً انّ هناك ارادة محلية كليّة بالخلاص من الوحش الارهابي، لكنّ الصحيح ايضاً هو العجز السياسي العام عن مغادرة الاصطفافات الداخلية التي نشأت منذ العام 2005 بما يعدم كل فرصة لإعادة إنتاج البلد بعيداً عن تلك الاصطفافات ومناكفاتها والتزاماتها. وفي هذه الحالة سيبقى الانتصار في الجرود يتيماً، ومجرّد إعلان للمزايدة، وبلا أيّ مفاعيل على أرض الواقع.