ملاحظات على مقالة بعنوان "غيبوبة وليد جنبلاط" 

نقيق الضفادع عنوان مقال نقدي رائع لفيلسوف لبنان ميخائيل نعيمة، يعتبر قاموساً ومرجعاً للنقد الأدبي والسياسي، لكل من يجد في نفسه الكفاءة السياسية لخوض هذا المضمار، وينصح بقراءته حتى لذوي القلوب الضعيفة، قبل خوض غمار النقد السياسي، على مبدأ "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون".

وحيث أن من من محسنات المقال الصحافي في زمن المواقف الخالية من الطعم واللون والرائحة، وعلى قاعدة "إجر بالبور وإجر بالفلاحة" الإستعانة بالفلاسفة، أو الشعراء، أو ربما "المتتمات الفلسفية"، لعل جرعة من الفلسفة التي يعتبرها البعض هرطقة وزندقة وتجديفا على الحق تعالى تفتح بعض أختام العقول الصدئة، التي توقف الجدل العلمي والفكري والسياسي لديها عند حدود فوائد التداوي ببول البعير وإثبات أن الأرض، كبعض العقول، ثابتة لا تدور ولا تعمل.


إنتقاد وليد جنبلاط ليس أمراً مرفوضاً، بالعكس، هو أكثر من مرحب به، لكن الهجوم على جنبلاط، ومن خلاله على الطائفة الدرزية، هو من أكثر مثيرات الفتنة في الواقع المحلي. فلعل جنبلاط الزعيم الأكثر إثارة للجدل في المشهد السياسي اللبناني، الذي لا يقل تناقضاً عما يرى من تناقض جنبلاط وتبدل موقفه "حسب الهوى". يكفيه كونه، حيثما تبدل، يشكل موقفاً أساسيا ومحورياً متميزاً، ويعطي، وإلى جانبه الرئيس بري، نكهة مختلفة للصراع السياسي اللبناني.

إستذكار المراحل التاريخية مفيد لدى كل مفصل، لكن التمنين السياسي غير لائق، ولعل التاريخ هو من الأشياء التي يجب إستذكارها، والعمل الجدي على دراسته وتمحيصه، والتعلم منه، وجنبلاط بهذا المعنى قارىء جيد للتاريخ. إلا أن من يطلب منه أن يعود إلى ما قبل 2008 عليه أن يعود هو أيضاً إلى ما قبل ذلك، وهذا أمر صعب، لأن التاريخ لا يعود إلى الوراء، كذلك فإن المشهد السعودي اليوم والمشروع السياسي لولي العهد الأمير محمد بن سلمان مختلف عن المشروع السياسي لرئيس ديوان الملك الراحل المغفور له عبد الله بن عبد العزيز، خالد التويجري. واستطراداً، فالتاريخ يثبت أن القهر السياسي لا يجدي مع جنبلاط ولا مع الدروز، والدروز لا يسمحون لوليد جنبلاط ولا لغيره من الزعماء أن يقفوا مستجدين بأي ذريعة على أي أعتاب، مع العلم أنهم يدركون حجمهم السياسي حالياً، ومع الأخذ بالإعتبار أن التواضع السياسي مطلوب من وليد جنبلاط كما هو مطلوب من غيره، في ظل إنفلاش الملفات القائم وخاصة في المشهد الخليجي، والتغييرات الجوهرية في المشهد السعودي على مستوى القيادة والمفاصل، تلك التغيرات التي تجعل من جميع أصدقاء السعودية وحلفاءها في ترقب حذر، خاصة مع صعوبة توقع مستقبل الحوار الخجول الدائر بين دوائر القرار السعودي والإيراني على الساحة اليمنية، وقبلها العراقية والسورية والعرسالية، وكذلك في ظل استمرار الجشع الترامبي اللامتناهي، المصر على تجفيف كل الإحتياطات المالية لدول مجلس التعاون.


في نقد التجربة الإيرانية مع الدروز أيضاً بعض من الظلم، لطالما كان الدروز إلى جانب القضية الفلسطينية، التي زهدت برايتها معظم الدول، وحملتها إيران، وللعلم والتوضيح والتاريخ، لم تكن إيران تسعى يوما إلى تشييع الطائفة المعروفية، ولا طاقة لها بذلك أصلاً، كما أن في إتهام العلويين أو الحوثيين بأنهم إيرانيون طعن في عروبة هؤلاء، وكذلك توصيف أن ما يشغل بال الولي الفقيه في فقط كيفية التخطيط لتشييع 200 ألف درزي فيه الكثير من صفع الحقيقة ثم خنقها. فما كان الدروز يوماً إلا دعاة وحدة وتلاقي، في أي وطن كانوا، واختصار حضورهم بعائلات فيه الكثير من الظلم لتاريخ طائفة مؤسسة للكيان اللبناني المتنوع، وما أدراك ما التنوع الغائب أصلا عن قواميس دواعش الفكر السياسي.

لا بد من التشديد على بعض الثوابت، وتذكير من يتمتع بذاكرة قصيرة، أن الدروز لم ولن يكونوا إسرائيليين، هم عرب وعروبتهم ليست بحاجة إلى إثبات، وكذلك لم ولن يكون الدروز إيرانيين، لا الإيرانيين يطلبون، ولا الدروز يطالبون، والتعددية داخل المجتمع الدرزي هي أمر أكثر من إيجابي وفعال، لا بل ومطلوب. ومحاولة قياس التجربة الحوثية على الواقع الدرزي غير ملائمة، مع التحفظ بالأصل على إعتبار أن الحوثيين العرب الأقحاح قد أصبحوا إيرانيين. واستطراداً، فالدروز لم يغادروا موقع العروبة إلى أي مكان، بل غادرها فقط منظري التطبيع ومناصري سياسة العلاقات الديبلوماسية مع العدو الإسرائيلي، والجنسية مع عميلاته، ووليد جنبلاط واع تماماً للتاريخ، وللعبة الأمم. ولا هو ولا الدروز بحاجة إلى فحص دم عروبة عند كل مفصل.

كما أن الدروز لا يريدون قتال أحد، كفى الدروز فخراً ما قاموا به على مر التاريخ، من الخندق إلى الأقحوانة، وكذلك لا يريدون للسنة والشيعة أن يتقاتلوا، لأنه من المعيب أن يتخلى الفريقان عن الثوابت الجامعة الدينية والفكرية والفلسفية، ويهملوا العدو الأوحد، ثم يقتتلون، كذلك من المعيب العودة إلى جاهلية صراع العرب والفرس. كما أن لا أحد يستهدف الدروز، فموضة التخويف والتهديد انقضت، ولن يفلح أحد في جر الدروز إلى إشتباك مع أي مكون لبنان أو إقليمي، كما أن أحداً لن ينجح بفرض عسكرة المزاج الدرزي ضد أي مشروع، مع العلم أن هناك إتفاقاً غير معلن عند جميع القادة الدروز، عنوانه إبقاء سقف الخلاف في الشارع دون مستوى التفجير والصدام. أما فيما يتعلق بإسرائيل، فلا جديد من إستهدافها للدروز، كما لكل العرب الآخرين، لأنها كيان قائم على فكرة فرق تسد، وتعامل الدروز، كغيرهم، مواطنون في الواجبات، رعايا في الحقوق.

وختاماً، أما أن تبلغ ببعضهم القحة السياسية بأن يستشهدوا بقول أحد أسوء خلفاء بني أمية، فيما يمكن تسميته نصيحة لجنبلاط بخصوص إبنه، "فخذ بالسيف كذا"، فجوابنا ما قاله السيد المسيح لتلميذ له:" رد سيفك إلى مكانه. لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون". وليتذكر من نسي أن بني معروف لا ترعبهم السيوف، ولا يهابون المنايا، وهم، بحول الله، من يرفعون ويضعون، وما قاله كمال جنبلاط خير شاهد:"قلنا لهذا كن فكان، وقلنا لذلك زل فزال"، والسلام على من يحب السلام.

غسان بو ذياب