معركة الجيش اللبناني تكتسب أهمية تتجاوز البعد العسكري، باعتبارها أول معركة يخوضها الجيش مع هذا التنظيم، فهي تبدو ملحمة عسكرية ووطنية تريد منها قيادة الجيش أن تؤكد للبنانيين قدرتها على حماية الحدود والدولة
 

أطلق الجيش اللبناني عملية فجر الجرود لتحرير جرود القاع وعرسال من تنظيم الدولة الإسلامية داعش، وهذه العملية العسكرية التي أثارت عشية حصولها التباسات لجهة كونها أتت في سياق الضغط السياسي والميداني الذي قام به حزب الله لفرض توقيت المعركة على الجيش اللبناني، من خلال فرضه توقيت المواجهة في جرود عرسال مع جبهة النصرة في مواجهة رأى فيها العديد من المراقبين أنها استعراضية، وكشفت إلى حد بعيد أن حزب الله كان يهدف من خلال هذه المواجهة مع مئة وعشرين عنصرا من جبهة النصرة إلى فرض إيقاع سياسي في لبنان عنوانه تشريع سلاحه من جهة، وفرض التنسيق بين النظام السوري والحكومة اللبنانية في ظل التحولات التي يشهدها الميدان السوري إقليميا ودوليا من جهة أخرى.

ساهمت معركة حزب الله مع جبهة النصرة في تعجيل الجيش اللبناني بإطلاق عمليته العسكرية، لا سيما أن حزب الله عمد بطريقة غير مباشرة إلى إحراج الجيش اللبناني عبر القول إنه نجح في إخراج جبهة النصرة من لبنان بالتعاون مع الجيش السوري، فيما الجيش اللبناني لم ينجز عملية القضاء على تنظيم داعش والتي تتطلب، بنظر حزب الله، تنسيقا معه ومع الجيش السوري.

الجيش اللبناني الذي أدرك، من جهته، أنه بات في موقع حرج، عمد إلى تحضير الهجوم على مناطق تواجد هذا التنظيم في المناطق المذكورة، ومنذ البداية عمد إلى إعلان أنه لا ينسق مع الجيش السوري ولا حزب الله في هذه العملية، وسينجز المهمة كاملة من دون أن يحدد مدة زمنية لذلك.

الجيش اللبناني الذي أخذ غطاء كاملا لتنفيذ العملية العسكرية من الحكومة اللبنانية، حظي بالتفاف شعبي واسع وغير مسبوق من اللبنانيين لتنفيذ هذه المهمة، وساهم سلوك حزب الله الذي سعى إلى استثمار عمليته ضد جبهة النصرة في الداخل اللبناني، ولا سيما على صعيد تبييض صفحة نظام الأسد، في صنع اندفاعة لبنانية واسعة ومقابلة تعلن عن الالتفاف حول الجيش، وعن دعم لخيار الجيش في قيامه بالمهمة من دون أي تنسيق مع الجيش السوري وحزب الله.

لا بل إن الجيش اللبناني أظهر في حرصه على القيام بهذه الخطوة منفردا أنه، وبخلاف الجيش السوري الذي يستعين بحزب الله، (أي الجيش اللبناني) قادر على تنفيذ العملية بمفرده.

تسليم عناصر تنظيم داعش أنفسهم لحزب الله، وليس للجيش اللبناني، جعل الكثيرين يتساءلون عن دلالة هذه الخطوة ومعانيها
على أن حزب الله الذي أعلن رسميا أنه لا يلزم الجيش بالتنسيق معه، قال عبر أمينه العام حسن نصرالله إنه سيهاجم تنظيم داعش مع الجيش السوري من الجانب السوري، في موقف يعبر في مضمونه عن إصرار على دخوله في المعركة بغاية بات يعرفها الجميع، أي التأكيد على دوره في تحرير أراض لبنانية من جماعات مسلحة سورية، كان هو في نظر الكثير من اللبنانيين سببا في دخولها إلى لبنان لا سيما بعد تورطه في القتال السوري منذ نحو خمس سنوات على الأقل.

معركة الجيش اللبناني تكتسب اليوم أهمية تتجاوز البعد العسكري ذا الأهمية البالغة، باعتبارها أوّل معركة يخوضها الجيش مع هذا التنظيم، فهي إلى ذلك تبدو ملحمة عسكرية ووطنية تريد منها قيادة الجيش أن تؤكد للبنانيين قدرتها على حماية الحدود والدولة.

وهي ملحمة تهدف إلى نسف كل المقولات التي يحامي عنها حزب الله وحلفاؤه منذ عقود، ومفادها أن الجيش اللبناني عاجز وغير قادر على حماية لبنان، وهي مقدمة للقول للبنانيين أن لا غنى لكم عن سلاح حزب الله.

في اليوم الأول من عملية فجر الجرود نجح الجيش اللبناني في التقدم في المنطقة التي يسيطر عليها تنظيم داعش، ونجح في السيطـرة على معظـم التلال في المنطقة، وأسقط أكثر من عشـرين مقاتلا من عناصر هذا التنظيم.

وفي اليوم الأول من العملية، وللمفارقة، عمد نحو خمسة مسؤولين عن مجموعات هذا التنظيم إلى تسليـم أنفسهم طوعيا لحـزب الله كما أظهرت الصور التي وزعها الإعلام الحربي لحزب الله، فيما حـاول الحـزب بكل وسائـل التـرويج ومن خلال أشرطة الفيديو المصورة القول إنّه أيضا يقاتل وليس الجيش اللبناني وحده في الساحـة، بل سعى أيضا إلى ترويج وبطرق غير مباشرة فكرة مفادها أنّه ينسق مع الجيش وهو ما ظل الجيش ينفيه حتى اليوم.

تسليم عناصر تنظيم داعش أنفسهم لحزب الله، وليس للجيش اللبناني، جعل الكثيرين يتساءلون عن دلالة هذه الخطوة ومعانيها.

الجيش اللبناني وفي اليوم الثالث لإطلاق العملية أصدر بيانا نعى فيه ثلاثة من جنوده الذين قتلوا نتيجة انفجار لغم أرضي في مركبة عسكرية كانوا فيها، ولكن هذه الخسارة التي يؤكد مصدر عسكري أنها من ضمن الخسائر المحتملة حتى الآن في العملية، رسخت لدى القيادة العسكرية خيار التقدم على طريقة القضم، لا سيما أنّ الجيش لا يريد أن يتكبد خسائر بشرية كبرى إذا كان قادرا على تحقيق نفس النتيجة العسكرية بالقضاء على وجود داعش على الأراضي اللبنانية بوقت أطول.

في البعد السياسي يدرك جميع اللبنانيين، من دون أن يعلنوا ذلك جهارا، أنّ ثمّة معركة معنوية وسياسية يخوضها الجيش اللبناني سواء على جبهة الداخل اللبناني أو في جبهة الخارج الإقليمي والدولي.

معركة إثبات الوجود والقدرة والكفاءة بأنه يمتلك كل المقومات التي تجعله قادرا على حماية الحدود اللبنانية، وهو إلى جانب قدراته التسليحية يتميز بأنه المؤسسة اللبنانية الـوحيدة التي تحظى بالتفـاف وطني وإجماع لبناني حوله لا يقاربه أيّ إجماع آخر.

ومعركة الجرود في هذا السياق تكتسب أهمية تتجاوز البعد العسكري الميداني إلى البعد السياسي والوطني، فالجيش بانتصاره المرتقب على تنظيم داعش رغم كل المحاذير التي تحيط بهذه المعركة، فإنه بإنجازها سيكون عرضة لتحديات أكبر ستجعله أمام مخاطر إضافية على مستوى بروزه كقوة عسكرية لا تشكيك في كفاءتها ووطنيتها.

مخاطر سيقابلها التفاف لبناني أكبر بعدما فقد الكثير من اللبنانيين ثقتهم بالحكومة والسلطات السياسية الحاكمة عموما.