سينتصر الجيش اللبناني حتماً في جرود رأس بعلبك - القاع حيث يُسطّر ملاحمَ البطولة. وسيحطّم الصعوبات العسكرية، ويتجاوز اﻷفخاخ، أيّاً كانت، ويحرّر الجرود من اﻹرهاب، ثمّ يُجري عملية «تنظيف» دقيقة في أماكن أخرى داخلية. ولكن، هناك دروسٌ يجب أن يتلقّنها اللبنانيون وطاقمُهم السياسي وحكّامهم، ليكون هناك ثمنٌ حقيقي للدم الذي أراقه الشهداء اﻷبرار... مرّةً أخرى، بعد مرّات كثيرة سابقة!
 

كما في معركة نهر البارد مع اﻹرهاب، في العام 2007، يَحظى الجيش اللبناني اليوم بدعمٍ سياسي استثنائي وتَعاطفٍ شعبي عارم. وهذا الالتفاف حول الجيش بديهيّ عندما يكون جنوده وضبّاطه قد وضَعوا دماءَهم على اﻷكفّ، وانخرَطوا في معركة لا هوادةَ فيها مع عدوّ شرس، حيث لا يَبخلون بأيّ تضحية مهما كبرَت.

اليوم، فيما غبارُ المعركة يملأ اﻷجواء، طبيعيّ أن يغلب خطاب التعاطف والحماس الملتهب. ولكن، غداً، يَهدأ الغبار. عندئذٍ، تنقشع اﻷجواء، ويصبح واجباً إجراء الحسابات للمستقبل والمحاسَبات للماضي. وسيكون على الطاقم السياسي الذي يُبدي اليوم أعلى مستويات التعاطف مع الجيش أن يجيب عن اﻷسئلة التي مِن حقّ المواطنين والجيش أن يطرحوها عليه:

1 - هل كان الجيش مضطرّاً إلى دفعِ الثمن اليوم، لو لم يكن لبنان أرضاً سائبةً للإرهاب واﻹرهابيين وفوضى التدفّقِ العشوائي للنازحين السوريين على مدى سنوات؟ ومَن هم المسؤولون عن بلوغِ هذا الوضع عملانياً وإجرائياً، سواء عمداًَ وقصداً، أو بسبب التقاعسِ عن القيام بالواجب، أو بسبب المساومات والكيديات والغايات والعقَدِ النفسية المتناقضة؟

وهل يجرؤ كلّ سياسي أو مسؤول على كشفِ دورِه الحقيقي في بلوغ اﻹرهاب ما وصَل إليه في جرود بعلبك، حيث دفعَ الجيش دماً وخطفاً على مدى سنوات كوكبةً من نخبةِ شبابه، كما المواطنون أبناء تلك المنطقة؟

2 - إنّ طاقم السياسيين والمسؤولين الذي يتسبّب اليوم بمأزقِ الجيش مع اﻹرهاب الوافد من سوريا، هو نفسُه أو هو وريثُ الطاقم القديم الذي انقاد إلى الكوارث اﻷهلية بسبب سوء استخدامِه ورقةَ النزوح الفلسطيني والعمل الفلسطيني المسلّح في لبنان، على مدى عشرات السنين.

فهو نفسُه ساهم في تحويل المخيّمات الفلسطينية، في قلب المدن والبلدات، معسكراتٍ تتحدّى السيادة اللبنانية وتهدّد أمنَ المواطنين. وهو تَجرَّأ على الجيش اللبناني وحاوَل تشويه صورتِه وتعطيلَ دورِه في مواجهة اﻹرهاب اﻵتي.

وهذا الطاقم ساهمَ بفعلته في تحضير اﻷرضية الملائمة لاندلاع الحرب اﻷهلية التي كلّفت لبنان مئات اﻵلاف من الضحايا ومئات مليارات الدولارات مِن الخسائر المباشرة وغير المباشرة، دماراً وهجرةً وتهجيراً واعتداءات إسرائيلية وسوريّة وفلسطينية ما زالت مستمرّة. وحتى اليوم، ما زالت المخيّمات الفلسطينية مرتعاً للإرهاب، حتى ﻷهلها الفلسطينيين. ونموذج عين الحلوة شاهد دائم.

3 - هل القوى السياسية قدَّمت للجيش ما يَلزم من تغطية سياسية للقيام بمهمّاته؟ أم بقيَت تنظر إليه من منطلق المصالح الفئوية؟ فبعض هذه القوى يَدعم الجيش هنا ويرفضه هناك. وقد أدّى ذلك إلى شلّ إرادة الجيش في بعض المراحل وخلقِ شعورٍ بالاستعلاء لدى البعض تجاهه.

4 - لم يحظَ الجيش حتى اليوم بالدعم العسكري اللازم ليؤدّيَ المهمّات الملقاة على عاتقه.

وما تُقدّمه له القوى الدولية الداعمة غير كافٍ في المطلق. وحتى اليوم، لا يُراد للجيش اللبناني أن يمتلك سلاح الطيران الحربي، علماً أنّ هذا السلاح كان كفيلاً بتسهيل المهمّة كثيراً عليه في الجرود، حيث المنطقة شديدة الوعورة وفيها كثير من اﻷوكار اﻹرهابية المحمية طبيعياً ضمن مغاور وشقوق صخرية. فسلاح الطيران يتكفّل بالتمهيد الجيّد لتقدّم القوات البرّية، بالحدّ اﻷدنى من اﻷكلاف، بعد إنهاك العدوّ وتقليصِ مواقعه.

المسؤولون المعنيون يقولون إنّ هناك مَن يخشى وقوع هذا السلاح في يد «حزب الله» أو استخدامه يوماً ضد إسرائيل، وأنّ هذا خط دوليّ أحمر، علماً أنّ لبنان لم يمارس في أيّ يوم اعتداءً على أحد، لا إسرائيل ولا سواها.

إذاً، يقوم الجيش اليوم بمهمّته المقدّسة دفاعاً عن اﻷرض والشعب، وطبعاً، دفاعاً عن طاقم السياسيين والمسؤولين الذين يتحمّلون بأشكال ونسَبٍ مختلفة ومتفاوتة تبعاتِ الوضع الذي وصَل إليه الجيش والبلد عموماً.

والتزام الجيش مبادئ الشرف العسكري يَمنعه من طرح اﻷسئلة المحرجة في الوقت الحاضر، وقد لا يَطرحها إطلاقاً، ﻷنّ مسؤولية المحاسبة في البلدان الديموقراطية تكون للمؤسسات الدستورية.. ومؤسسات لبنان الدستورية أسيرة الطاقم السياسي إيّاه!

لكنّ الناس الذين ينبثق منهم الجيش، أفراداً وضبّاطاً، من حقّهم أن يسألوا السياسيين والمسؤولين ويحاسبوهم، كلٌ بدوره: ماذا فعلتم بأبنائنا وبالبلد من أجل حساباتكم الخاصة أو الفئوية؟ وماذا ستفعلون لئلّا تتكرّر المآسي؟

شكراً للبيانات الملتهبة والشعارات الداعمة، ولكن، هل ستكون هناك مكاشفة حقيقية ومحاسبة وحسابات سليمة تمنَع تكرار الكوارث الوطنية؟
بعد البيانات الملتهبة وشعارات الدعم، هل من مكاشفة ومحاسبة وحسابات سليمة تمنع تكرار الكوارث؟