هكذا تُطوى السماء ، طيَّ السجلِّ للميثاق، والكتُب والكتاب، لعل قبض الأجنحة إخفاء سرٍّ يطوي رحلة الوجد في سراديب الوجع، لتبقى فسحة الفضاء نشر صفحاتٍ يتلوها مَن يخلق من السراب ماءً... وهكذا تُروى الأرض، ويُنفخ في الصور، ما أعظم الفرق بين الحضور والغياب، نستاف تراب غيابك، ودم سجنك، وعلى راحتيك حيث ينام ملاك، وعلى ساعديك يصحو آخر، وينبت الورد والورود والريحان والصعتر، ويزهر التبغ، وعلى شفتيك سبحةٌ صوفية بعيدة الصدى، وخلف عباءتك تعبٌ وأمل، وعمامةٌ توختها محبة الأرض والوطن والإنسان، وفي محرابك لون عينيك، يزهر خضرةً مختلفةُ الألوان، فتأتي فراشات الضوء لتستعيد لوناً يكمل زينتها، وتأتي النحلات والنملات وعصافير الشوك والتين والزيتون لتتعلَّم سلوكاً وعطاءً، وأفواجاً وأمواجاً، لا تهدأ كموج البحر...
علماء.. خطباء.. أدباء... هم كثيرون.. لكن الرجال قليل، ما ينفع هذا الشعب ويضطلع بهوله وخطبه ويحمل أعباءه، هو ذاك الرجل الذي يرحم الصغير، ويحنو على الكبير، ويغتفر عبث الأطفال، وجهل الشيوخ... قرأناه منذ الصغر، في الوقت الذي فيه الكثير من هوام الأرض اعتبره حربٌ عليهم، في حين كان يقضي كثيراً من لياليه متردداً ما بين شمس بعلبك ورمل بيروت وموج صور.. ربي اغفر لهم، وفي الوقت الذي تنكر له كثير، وخصوصاً أولئك الذين يزدلفون، ويمسحون وجوههم على أعتاب القصور...

إقرأ أيضا : الصراع بين الشيعة والتشيُّع !

لم يكن موسى الصدر حقوداً وحاقداً، ولا منتقماً، ولا طالباً بثأر، هو شريف النفس، بعيد الهمة، متجملاً بصفات العالم الذي لا يتعصَّب ولا يتحيَّز ولا يداهن ولا يجامل ولا يترك لعقيدته مجالاً للعبث بجوهر التاريخ.. عالمٌ لا يترك الحسنة إذا رآها، ولا يشمت بالسيئة إذا عثر بها، لا يكذب ولا يتلوَّن، ولا يخيس بعهده، ولا ينكث بوعده، إنه موسى الصدر، واسع الصدر، فسيح الحلم... ولكن لا ندري كيف تتسع الصدور للخمَّارين واللصوص والقوَّادين من الذين يرمون أوساخهم في الآذان والأبدان، والقمَّارين من الذين يسرقون أموال الناس، ومن المخمورين الذين يهتكون الأعراض، فلا يطاردونهم ولا يحاربونهم ولا يسمونهم منحرفين أو داخلين أو داغلين وداعلين، ثم يضيقون ذرعاً بالعالم الذي يهذب النفوس، ويثقف العقول، ويبعث في ضعاف العزائم منهم روح المحبة والتسامح...
أخال موسى الصدر لم يضق ذرعاً لهذا كله، لا يشتمهم، وأخاله ينبههم بأدب الكلم والكلام، ويدعوهم إلى اتخاذ كلمة الحب..نحن وموسى الصدر لا نعوزها خطابات، صلوات، أدعية كميلية وتوسلية وإفتتاحية، ومهرجانات مصطفة مصفقة، إنما نعوزها روح عالية تخفق في فضائنا وسمائنا خفوق النجم الزاهر في سماء الوطن، نعوزها شمسٌ تشرق في نفوسنا مكارم الأخلاق، لنصلح من الأدب ما فسد منه وما بطن، حتى يعلم الصغير والكبير، والقوي والضعيف، أنَّ قيمة المرء في حياته ما يحسن من أداء الواجب الإنساني تجاه مجتمعه وأمته وبلده، وإلاَّ.. فليبقى الصمت أجدى لمن لا يحسن إلاَّ رمى الحجارة في بئر الوطن....