ل الممارسات والمضايقات التي يتعرّض لها صحافيون وناشطون ومواطنون معترضون أو منتقدون تشير إلى أن نهج جميل السيّد ما زال سارياً، مع مراعاة فارق استبدال الوصاية السورية بوصاية أخرى تخترق أجهزة في الدولة تمضي بممارساتها بعمليات ممنهجة من القمع والاغتيال المعنوي والترهيب بحق أصحاب الرأي المختلف.

في الزمن الراهن والذي يصحّ تسميته بزمن الاستدعاءات، والذي بات فيه أصحاب الرأي عرضة للتوقيف والاحتجاز والتحقيق، مقابل أي كلمة أو جملة عبّروا فيها عن رأيهم من على منابرهم أو صفحاتهم الخاصة، جعل الكثيرين يُعتبرون في عُرف هذه الأجهزة مستهدفين ويتوجب إسكاتهم وكمّ أفواههم وكسر أقلامهم. وما قصة الأسير المحرر من سجون العدو الإسرائيلي أحمد اسماعيل وما حصل معه مؤخراً سوى نموذج يُعبّر بوضوح عن الأسلوب والممارسات التي قد يتعرض لها أي مواطن أو صاحب رأي سوّلت له نفسه التعبير عن أفكاره وقناعاته.

اسماعيل الذي تم استدعاؤه من قبل الأمن العام اللبناني، الخميس، خضع للتحقيق لساعات طويلة قضاها في مكتب شؤون المعلومات التابع للأمن العام، بعد نشره سلسلة "بوستات" في حسابه الخاص في "فايسبوك" انتقد فيها وزير الخارجية جبران باسيل والنائب السابق وئام وهاب، وسياسة حزب الله وتدخلّه في الحرب السورية.. ما لم يرُق للجهات الممسكة بمفاصل أمنية وأجهزة تابعة للدولة اللبنانية، تُحرّكها كالبيادق كيفما تشاء وتجعلها واجهة وغطاءً ترهب وتقمع كل صاحب رأي مخالف ومنتقد لجهات سياسية وحزبية بعينها، مثل "حزب الله" وشخصيات منضوية في ما كان يُسمّى فريق 8 آذار.

اسماعيل يروي في حديث إلى "المدن" نماذج من العبارات والمصطلحات وجمل الترهيب التي تعرّض لها خلال التحقيق، حيث وجد نفسه تحت رحمة ضابط أمن يصرخ في وجهه ويهدده قائلاً "بدك تحكي رأيك بدك تتحمل النتائج، ممنوع تقول رأيك أو بتسكّر الفايسبوك أو بتفل من هالبلد"، مشيراً إلى أنه لم يشعر للحظة واحدة بأنه يتم التعامل معه من قبل جهة أمنية رسمية تستند إلى القانون والدستور، بل أنّ العبارات والتهديدات التي وُجّهت له جعلته يقتنع كأن الزمن عاد به إلى زمن سلطة الميليشيات، خصوصاً بعدما تم تهديده وتحذيره بحصول الأسوأ في حال عودته للكتابة والتعبير عن رأيه، رغم أنه لم يشتُم ولم يتعرض لأي شخص أو جهة بالتجريح أو الإهانة، حيث كانت كلماته تحمل نقداً بأسلوب محترم وراقٍ. لكن هيهات أن يشفع له ذلك، إذ يقول إنه هُدّد بحرمانه من وظيفته في مؤسسة "أوجيرو" وصولاً للقتل في حال استمراره في التعبير عن رأيه.

الأمن العام اللبناني من جانبه كان قد أصدر بياناً جاء فيه أنه "عطفاً على ما تم تداوله حول إستدعاء أحد المواطنين إلى المديرية والإدعاء بتعرّضه لما سمي "التهديد بالقتل داخل مؤسسة رسمية"، يهم المديرية أن توضح ما يلي: بتاريخ 17/8/2017 وعلى خلفية متابعة ملف تفكيك شبكات التعامل مع العدو الإسرائيلي، تم استدعاء أحد المواطنين إلى المديرية العامة للأمن العام للإستماع إليه حول بعض المعطيات التي وردت في الملف لا سيما علاقته وارتباطه عبر وسائل التواصل الإجتماعي بأحد أفراد الشبكة المذكورة. علماً أن الإستماع إليه تم وفقاً للأصول، ولم يتم التطرّق إلى الشق المتعلّق بمدوناته السياسية رغم تعرضه فيها لبعض الشخصيات الرسمية التي يعود لها أمر طلب الملاحقة أمام القضاء المختص من عدمه".

لكن ما ورد في بيان الأمن العام ينفيه اسماعيل، قائلاً ان السؤال حول سيدة تقوم بكتابة التعليقات في صفحته، لم يستغرق أكثر من دقيقتين، بعدما نفى اسماعيل أن يكون على معرفة بها، في حين أن التحقيق استمر لأكثر من 3 ساعات حول كتاباته في "فايسبوك"، حتى أنه تم سؤاله عن مدى معرفته بالصحافي فداء عيتاني الذي تم توقيفه مؤخراً على خلفية "بوست" نشره وانتقد فيه الوزير جبران باسيل.
اسماعيل اعتبر أن الرسالة لم تكن موجهة له فقط، بل هي موجهة لصاحب أي رأي حر وللفريق الذي يمثله وينشط فيه، وذلك عقب تسييس الأمن والمجتمع الذي برأيه أصبح جهوياً ويتبع لطرف معيّن. وأنه من خلال رده على الأسئلة التي طرحت عليه في التحقيق، تساءلل: عندما كان ينتقد أي جهة تعارض "حزب الله" وسياسته مواقفه وممارسته، لم يتعرض لأي مساءلة أو مضايقة، لكن الاستدعاءات تنهال عليه في لحظة تكون موضوعاته وكلماته فيها نقد لـ"حزب الله" وجبران باسيل ووئام وهاب وأشخاص آخرين محسوبين على محور الممانعة، لماذا؟ّ! ليأتيه الجواب من ضابط التحقيق: "سد بوزك هيدا الشي ما بيخصّك".

اسماعيل لم يخف، وكشف عن كل ما تعرض له وحصل معه، خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده اليوم، بهدف سرد تفاصيل وأحداث ما جرى معه، لكن اللافت أتى من تجاهل وسائل الإعلام اللبنانية التي أبت أن تلبي دعوة اسماعيل للحضور والمشاركة، باستثناء القليل منها، الأمر الذي أوضحه في حديثه لـ"المدن"، حين قال: لقد اتصلت بي جهات إعلامية وأخبرتني أنها تعرضت لتوصيات وضغوط، ما منعها من تغطية المؤتمر الصحافي".

وفي حين لم يحضر من القنوات اللبنانية سوى تلفزيون "المستقبل"، كان لافتاً أيضاً حضور ومشاركة ناشطين في "تيار المستقبل" ممن أعلنوا دعمهم وتضامنهم مع اسماعيل، وهو ما يتواءم والموقف الداعم الذي أعلن عنه الرئيس سعد الحريري، حين التقى اسماعيل وعبّر له عن استنكاره لما حصل معه في الأمن العام، واعداً إياه بمتابعة القضية مع كل من اللواء عباس ابراهيم ووزير الداخلية نهاد المشنوق، الذي وعد بتشكيل لجنة للتحقيق في ما جرى مع اسماعيل في الأمن العام.

ومع تكرار هذه الممارسات مؤخراً، اقترح المتضامنون مع اسماعيل تشكيل مجموعات للوقوف في وجه الممارسات الميليشياوية التي تحصل في بعض أجهزة السلطة، والعمل ضمن حركة عامة ترفع الصوت عالياً ضد من يسعى لقمع حرية التعبير في لبنان، خصوصاً أن الموضوع لم يعد يحتمل السكوت عنه، وإن ما تعرّض له اسماعيل يجب أن يكون الدافع للتحرك بداية من هذه اللحظة، بعدما بدا أن أزلام هذا النهج يستغلون كل وسائل التواصل الاجتماعي لإرهاب وتهديد أي معارض لرأيهم. وهو ما حصل مع زوجة اسماعيل، فريدة ضاهر، التي كشفت لـ"المدن" أنها تعرضت لكثير من المضايقات في "فايسبوك" من خلال أشخاص وجهوا إليها رسائل تحتوي تهديدات وإهانات وشتائم على خلفية ما يكتبه زوجها في صفحته، وأن هؤلاء الأشخاص يقومون بإغلاق حساباتهم بعد إيصال تهديداتهم، ما يدل على أن هذا التصرف ليس فردياً، إنما هو من فعل جهة لطالما شنّت حملات عدوانية متكاملة على كل معارضيها.