هي أكثر من «لحظة عراقية» لها دلالاتها المهمة خارج التوقيت الإيراني كما يصفها البعض، لنقل إنها قفزة خارج قواعد الهيمنة المتصاعدة، التي تحاول طهران فرضها على العراق، ولأنها تأتي في سياق متتابع ومتصاعد ليس من المبالغة أن نطرح السؤال: 
هل بدأ العراق يتحرك للخروج من عملية الاستتباع الإيرانية؟
من زيارة حيدر العبادي إلى مكة الشهر الماضي، حيث استقبله خادم الحرمين الشريفين، إلى دعوة مقتدى الصدر لزيارة الرياض حيث اجتمع مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، إلى دعوة مقتدى أيضاً لزيارة دولة الإمارات حيث اجتمع مع ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، إلى زيارة وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة إلى بغداد، إلى إنهاء عمّار الحكيم عقوداً من العلاقة الوثيقة مع طهران بخروجه من وعلى «المجلس الأعلى الإسلامي»، يمكن القول إن الكيل العراقي طفح أخيراً بالهيمنة الإيرانية الطاغية!
في 16 يوليو (تموز) الماضي نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تحقيقاً جاء فيه أن العراق بات أشبه بضاحية إيرانية، فكل شيء هناك إيراني من زجاجة المرطب إلى الدبابة التي تعبر حدوداً مفتوحة مروراً بالإسمنت وحجارة الطوب، والبرامج التلفزيونية المتعاطفة مع طهران.
وعلى سبيل المثال لم يتردد زهير الجبوري من مجلس محافظة النجف في القول لتيم أرينغو كاتب التحقيق: «إننا نستورد التفاح من إيران لنقدمه إلى الحجاج الإيرانيين، هل تتصور أنه حتى جمع النفايات جرى تلزيمه إلى شركة إيرانية»، وفي محافظة ديالى على الحدود، قال وحيد قاجي المسؤول الإيراني الذي يشرف على حركة العبور: «العراق لا يملك ما يقدمه لنا وفيما خلا النفط يعتمد العراقيون علينا في كل شيء»!
لكن القصة لا تتوقف عند حدود إغراق الأسواق والاقتصاد العراقيين، ما هو أهم إغراق القرار السياسي والعسكري بالهيمنة الإيرانية، وهو ما بدأ يطلق حركة تململ واسعة تعبر عن إرادة متنامية عند قوى وقيادات عراقية باستعادة روابط العراق العربية وإعادة رسم قواعد السيادة الوطنية العراقية، بعيداً من الأطر التي تحاول إيران فرضها، لتجعل من العراق ملحقاً ومعبراً آنساً لمصالحها في اتجاه سوريا وصولاً إلى لبنان على حساب مصالحه وروابطه العربية.
زيارة حيدر العبادي إلى مكة حيث لقي الملك سلمان بن عبد العزيز شكّلت انعطافاً مهماً في العلاقات وأسفرت عن تشكيل مجلس تعاون استراتيجي بين البلدين من أجل الارتقاء بالعلاقات إلى المستوى الاستراتيجي سياسياً وأمنياً واقتصادياً، وأعلن خادم الحرمين الشريفين أن كل القلوب والأبواب مشرّعة للتعاون المشترك بين السعودية والعراق، وأن المملكة تقف مع استعادة العراق دوره الكبير في المنطقة وتعزيز العلاقات معه على كل المستويات، وقال بيان مشترك إنه تم تشكيل لجنة وزارية لتعزيز علاقات البلدين في كل المجالات.
زيارة زعيم التيار الصدري إلى الرياض اكتسبت أهمية مضاعفة على خلفية مواقفه الوطنية ودعواته القوية إلى حماية الوحدة الوطنية بعيداً من رياح المذهبية البغيضة والتدخلات الخارجية، وهو ما جعله دائماً على خلاف عميق مع نوري المالكي رجل إيران في العراق، وبعد محادثاته مع الأمير محمد بن سلمان صدر بيان عن مكتبه أكد التوافق في الآراء ومدى حرص الرياض على علاقة أخوية مع بغداد، وأشار إلى زيادة المساعدة السعودية للمتضررين والنازحين العراقيين، وإلى رغبة الرياض في تعيين سفير جديد في بغداد وافتتاح قنصلية عامة سعودية في النجف وإنشاء خط جوي وفتح المنافذ وتعزيز التبادل وتبني خط ديني معتدل وتوثيق التعايش السلمي بين البلدين.
زيارة مقتدى للرياض لاقت ارتياحاً شعبياً ورسمياً حيث نوّه العبادي بأهميتها في سياق التأثير على ضرورة الانفتاح على دول الجوار، خصوصاً أن التيار الصدري يشغل 34 مقعداً في البرلمان، لكن الغضب تصاعد في طهران، التي شنّ أنصارها في بغداد انتقادات شديدة إلى مقتدى، وصلت إلى حد أن واثق البطّاط زعيم تنظيم «جيش المختار» هدده بالقتل.
حاولت طهران تحريف مغزى التحرك العراقي في اتجاه الرياض بالقول إن المملكة طلبت وساطة العراق لإصلاح العلاقات معها، لكن السعودية أصدرت نفياً فورياً لهذه المزاعم، وحتى وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي الذي نسب إليه هذا الكلام نفاه بدوره!
ومن المعروف أن مقتدى الصدر وقف دائماً ضد الهيمنة الإيرانية على العراق، وخصوصاً بعد تشكيل «الحشد الشعبي» الذي رفض دمجه بالجيش، وكان أنصاره قد تظاهروا الخريف الماضي في المحافظات الجنوبية ومزقوا صور قاسم سليماني مرددين هتافات: «يا سليماني أنا الصدر رباني».
حتى قبل تشكيل «الحشد الشعبي» كان الصدر قد شنّ هجوماً نارياً على طهران ورجلها نوري المالكي وذلك في فبراير (شباط) 2014 عشية الانتخابات، حيث قال بالحرف: «السياسة صارت باباً للظلم والاستهتار ليتربع ديكتاتور وطاغوت فيتسلط على الأموال وينهبها، وعلى الرقاب فيقصفها، وعلى المدن فيحاربها، وعلى الطوائف فيفرقها، وعلى الضمائر فيشتريها، وعلى القلوب فيكسرها، ليكون الجميع مصوتاً على بقائه في السلطة».
أكثر من هذا وجّه يومها انتقاداً قوياً ومباشرا إلى طهران عندما قال: «العراق تحكمه ثلة جاءت من خلف الحدود، لطالما انتظرناها لتحررنا من ديكتاتورية، لكنها تتمسك بالكرسي باسم الشيعة والتشيّع، لا يجوز ترك العراق للديكتاتورية الجديدة الممثلة بالمالكي.. يجب مواجهة الطاغوت والديكتاتور».
من الرياض ومحادثاته المهمة مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، إلى أبوظبي ومحادثاته المهمة مع الشيخ محمد بن زايد الذي وضع بتصرفه طائرة خاصة ذهاباً وإياباً، حيث أكدت المحادثات أهمية استقرار العراق وازدهاره وأن يلعب دوره المهم والطبيعي على الساحة العربية بما يعزز أمن العالم العربي واستقراره، وحيث نوّه الشيخ محمد بن زايد بتاريخ من التعاون الأخوي بين البلدين..
على خطٍ موازٍ كان عمار الحكيم يقفز خارج العباءة الإيرانية عندما انسحب من «المجلس الأعلى الإسلامي» الذي تأسس في طهران أيام عمه محمد باقر الحكيم خلال الحرب العراقية الإيرانية وأسس تنظيماً جديداً باسم «تيار الحكمة الوطني» وهو ما فاجأ طهران التي سارعت إلى دعم الذين بقوا في المجلس المذكور، في حين تشير الأنباء الواردة من بغداد إلى تصاعد حركة الشباب الذين أعلنوا التحاقهم بالتيار الجديد، ما يوحي بمدى الضيق في الشارع العراقي من الهيمنة الإيرانية.
وليس خافياً أن تشكيل «الحشد الشعبي» أجج المشاعر الوطنية العراقية، على خلفية تصريحات قادة الميليشيات المنضوية إليه، كأن يقول حامد الجزائري إن قادة الحشد الشعبي تربوا في أحضان النظام الإيراني وإنهم يعتبرون أنهم يتبعون دولة ولاية الفقيه التي لا تعترف بالحدود مع العراق، وكأن يعلن أمين عام «كتائب سيد الشهداء» أن الحشد مرتبط بولاية الفقيه ولا يتبع الساسة العراقيين.