بعد الأحداث الأسطورية الأهوال التي يمر بها العالم العربي، ما عاد الحديث في الدولة بعامة، وصيغتها أو صيغها نظرياً أو من نوافل القول. فالبحث في صيغة النظام وطبيعته صار ضرورياً لعدة أسباب؛ الأول في نظر العالم الآن بسبب ظهور أفكار الدولة الدينية، وتحول دعاتها إلى إرهابيين. وبسبب الرؤية السلبية للنظام الديني الآخر القائم في إيران. لكنّ الغربيين وكثيرين من المراقبين والمثقفين العرب كانوا قد يئسوا من الأنظمة العربية ذات الطبيعة العسكرية والأمنية والقائمة منذ عقود. ولذلك تحمسوا للحراكات المدنية التي بدأت في أواخر العام 2010. أما نحن من جانبنا فقد تلطّفنا في التعبير عن الدولة المرجوة وسميناها بالدولة المدنية. وهو مصطلحٌ أسهم في انتشاره في الثمانينات من القرن الماضي الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وكان يريد أن يتمايز به عن «الدولة العلمانية» الغربية، والدولة العسكرية، والدولة الدينية الثيوقراطية التي قامت في إيران. بيد أنّ «داعشاً» ومن قبله «القاعدة»، كانا من الهول، بحيث صار بشار الأسد والآخرون من أمثاله يفتخرون بأنهم علمانيون! ولذلك فقد سارع مفكرون عرب إلى اشتراط الديمقراطية لكي تكون الدولة علمانية (!).
وعلى أي حال، ففي مقابل تقدم مصطلح «الدولة المدنية»، واطمئنان حتى قسم من المتدينين إليه، انصبّت البحوث في العالمين الغربي والعربي في العقد الأخير على نقد مقولة الدولة العلمانية، والتقصد إلى تفكيكها. ولا تتوحد الأسباب أو تتفق لماذا صارت الدولة العلمانية مرذولة لدى شريحة معتبرة من الباحثين الغربيين في الفلسفة والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية. فهناك من يأخذ عليها استبداديتها القاسية، وإرادتها الصهر المطلق للمجتمعات، وممارسة الإرغام المنظور وغير المنظور باسمها على الناس بحجة حصولها أو تفردها بشرعية العنف من أيام توماس هوبز وهيغل... إلخ وإلى أيام جورج أورويل ومزرعة الحيوانات. وهناك من يأخذ عليها أو على صيغتها القومية أنها تسعى لطهورية وصفاء عرقي وتهمّش الآخرين وتضطهدهم انتصاراً لمفاهيم الأمة والقومية، وتحولها إلى إثنيات وفاشيات. وهناك من يأخذ على الدولة العلمانية «الفساد المرضي» الذي خالط الدم ودخل إلى النخاع الشوكي بسبب الاستعمار واستعباد الشعوب؛ حتى إنّ الصفاء والتفوق العرقي «من جانب الناس الأكثر قيمة، وأصحاب الرسالة الحضارية»، جعل من المستحيل على الدولة العلمانية «الديمقراطية» أن تقيم أنظمة عادلة وإنسانية. وهذه النقدات أضاف إليها الماركسيون في النصف الثاني من القرن العشرين عمقاً وشسوعاً بحيث وفي فترة من الفترات، صارت مقولات لينين فماوتسي تونغ عن الدولة والثورة هائلة الشعبوية.
ثم بدت الدولة العلمانية الديمقراطية (هل هناك علاقة ضرورية بينهما؟) في حقبة انتصار الرأسمالية على الشيوعية - باعتبارها قد فازت فوزاً نهائياً (خاتمة التاريخ) أو نهايته. ثم عندما دبّت فوضى عالمية، وبدأت الدول تتصدع، نتيجة عدم قدرة الولايات المتحدة على التحول إلى «بوليس» في العالم كلّه، اشتدّ النقد للرأسمالية وآيديولوجيا السوق، ومن وراء ذلك وبالتدريج تجدد النقد (غير الماركسي هذه المرة) للدولة الحديثة بشتى أنظمتها باعتبارها تمثل احتقاراً لإنسانية الإنسان وحرياته.
لقد قرأتُ أخيراً أربعة كتب لأنثروبولوجيين وفلاسفة وعلماء دين وتاريخ، تتحدث عن هشاشة الدولة وفكرتها، وعن أنها قزمٌ متعملق، وأنه وباسم العلمانية أو الديمقراطية سادها ويسودها الفساد وسيطرة الطبقات العليا على الموارد والحياة السياسية، والحريات. كتاب طلال أسد قديمٌ نسبياً واسمه «تشكلات العلماني: المسيحية والحداثة والإسلام» (2006). وهو فيه لا يزال من نقاد الخطاب الاستعماري للدولة والدولة القومية. لكنه يدخل أيضاً في الفلسفة والأنثروبولوجيا. وقد اشتهر الكتاب بسبب جدية طلال أسد، وصعود نجمه في الأنثروبولوجيا منذ السبعينات، ووجوده في مواقع مؤثّرة في الجامعات الغربية (المدرسة الجديدة لعلم الاجتماع - نيويورك). أما الكتب الثلاثة الأُخرى فهي إمّا لتلامذة أسد وإما لتلامذة مارسيل غوشيه، صاحب كتاب: نزع سحر العالم. فغوشيه الأنثروبولوجي المعروف يعمل منذ الثمانينات على عمليات «خروج الدين من العالم». بيد أنه في كتبه الأخيرة (2014 - 2015)، بدأ يتأمل الدولة في علاقاتها بالدين تأملاً نقدياً. وقد ظهر ذلك أكثر لدى التلامذة؛ الذين بدأوا يدرسون «صناعة الدين العلماني» الذي أنشأته الدولة. على أنّ تشارلز تيلور فيلسوف الدين المشهور في كتابه «الزمن العلماني» أوضح أنّ الدولة فشلت في إلغاء الدين، فاشتبكت معه، ثم تشابكت واستعار هو منها، وهي استعارت منه. على أنّ الطريف هو إقبال مجموعة من الأنثروبولوجيين على دراسة ظاهرة العنف الديني أو العنف باسم الدين، واعتبار أنّ ذلك أسطورة، وأنّ الصحيح هو أنّ السلطة العنيفة والمسيطرة وطرائق اشتغالها؛ كل ذلك هو الذي صنع العنف وسلّمه للدين، الذي سارع إلى تبنيه للأسباب نفسها: شَرَهُ رجالاتٍ من الإحيائيين للوصول للسلطة، ونفاد حيلة الأساليب السابقة، بحيث عمدوا لتطوير مقولات يجب تطبيقها باسم الدين في عمليات الاستيلاء على الدولة، لأنها تملك سلطة الإرغام وحدها. وبذلك يصبح المهووسون الدينيون هم أصحاب السلطة بالاستيلاء وإنْ بطرقٍ ديمقراطية شكلاً، كما حصل في عدة بلدان عربية وإسلامية (!).
ليس المقصود من هذه العجالة صبّ الماء في مطحنة أولئك الذين يريدون هدم الدولة لأنهم فوضويون عدميون، أو لأنهم يملكون تصوراً ثيوقراطياً ما لبث أن ظهر لفترة مؤقتة أو قصيرة، وربما يعود للظهور إذا اشتدت الهجمات، وتعاظمت الاستنزافات! كما أنه ليس المقصود الدخول في خطاب النقد الاستعماري للدولة الإمبريالية ميولاً أو خطاباً أو ممارسة. فقد قرأتُ قبل سنة كتاباً للأستاذ المعروف في الفقه الإسلامي وتاريخه وائل حلاّق، عنوانه: «الدولة المستحيلة»، والتعبير هنا مزدوج. فالمستحيل ليس الدولة الإسلامية التي يدعو إليها الجهاديون المسلمون وحسْب، بل وهي الدولة العلمانية - العقلانية الغربية، ذات الصيغة الاستبدادية مع آيديولوجيا السوق، وانعدام الأخلاق، والميل إلى النزوع الإطلاقي!
لست بالطبع جازماً في أي المصطلحات أفضل: المدني، أو الديمقراطي، أو العلماني. والأستاذ الجابري كان ضد استخدام هذا التوصيف للدولة، لأنه يملك حمولة سلبية، ورأى إمكان استخدام المصطلح: المدني أو الديمقراطي. لكنّ الدخول من جانب الأنثروبولوجيين والشبان الراديكاليين إلى مقولات نقد الدولة العلمانية أو الحديثة؛ (بالحجج التي ذكرناها سابقاً)، غير مفيدٍ على الإطلاق، لأنه ينصر وجهة نظر المتطرفين، الذين يختارون من المقولة نفسها جزأها الأول الخاص بالأنظمة الديمقراطية، بل ويتجاهلون تماماً النقدات الموجهة للدولة الشمولية، والأخرى الفاشية أو الثيوقراطية.
نحن محتاجون إلى أنظمة تعددية تظهر فيها المواطنة وحقوق الإنسان أو تبدأ مراعاتها، وصولاً إلى مشاركة معقولة، وعدالة قضائية لا تخلو من حكم القانون أو الطموح إليه. وقبل ذلك وبعده أن لا يُقتل الإنسان ولا يُهجَّرُ لأنه ليس من هذه الطائفة أو تلك: هل هذا كثير؟ ولا شكَّ أنّ نظام الدولة الغربي فيه نقائص كبيرة، إنما إذا لم يكن السعي إلى ما يشبهه، فإلى ماذا نسعى وليس لدى البشر غير هذا النموذج اليوم؟ أنتم محقون يا طلال أسد ويا طه عبد الرحمن ويا تشارلز تايلور ويا جورج أورويل ويا وائل حلاق. لكنّ طموحنا أقل: دولة ليست على شاكلة دولة القذافي أو الأسد - وسمّوها بعد ذلك ما شئتم!