لا شك في أنّ إعلان محافظة كسروان- جبيل يشكّل خطوةً إنمائيةً مطلوبةً تحتاجها كلُ المناطق لأنّ الروتينَ الإداريَّ قاتِل، والضغط الذي تواجهه الإداراتُ المركزية ثقيلٌ الى درجة «الكفر».
 

قد تكون لإعلان هذه المحافظة نتائج إيجابية، لكنّ العبرة تبقى في التنفيذ، حيث يتطلب هذا الأمر متابعةً من حيث تأمين المباني اللازمة لإدارات الدولة وتعيين محافظ جديد، علماً أنّ المحافظات التي أُقرَّت سابقاً، وعلى رأسها محافظتا عكار وبعلبك- الهرمل ما زالت تفتقد الى التجهيزات اللازمة لكي تنطلق في عملها الفعلي.

وبغض النظر عن الإيجابيات الإنمائية، يواجه جبل لبنان تراجعاً في جغرافيّته، فالجبلُ القديم، أي حدود المتصرّفية كان يمتدّ من جزين مروراً بالشوف، عاليه، بعبدا، المتن، كسروان، جبيل، زحلة، وصولاً الى أقضية الشمال المسيحي، أي البترون، الكورة، زغرتا، بشري.

وبعد إعلان دولة لبنان الكبير، تمّ سلخ أقضية الشمال، إضافة الى جزين وزحلة، وإقرار المحافظات الخمس. لكن رغم ذلك، ظلّ جبلُ لبنانَ بحدوده الحاليّة عرضةً للتقسيم، وقد ظهر ذلك جلياً خلال فترة الوجود السوري وعند موعد الإنتخابات، وصولاً الى وقتنا هذا، وقد قُسّم بين جبل لبنان الشمالي والجنوبي، وذلك للحفاظ على خصوصيّة الدروز عموماً ونفوذ النائب وليد جنبلاط خصوصاً.

لا أحد يعارض إعادة النظر في التقسيمات الإدارية، وهذا مطلبُ كلِّ لبناني، لأنّ المركزية تساهم في زيادة معاناة الشعب، فابن عكار أو الشريط الحدودي الجنوبي أو في البقاع، يعبر مسافات ليصل الى بيروت لتخليص معاملاته، علماً أنّ اللامركزية تساهم في بقاء المواطنين في أرضهم وبلداتهم.

وبالتالي، فإنّ الأمر يجب ألّا يقف عند هذا الحدّ، بل يجب أن يترافق مع عدد من المشاريع الإنمائية للمناطق البعيدة، لكنّ الخطورة حسب بعض المعترضين تكمن في إستكمال التقسيم السياسي للجبل الذي يشكّل عصبَ الوجود الماروني والمسيحي، وهذا الأمر سبب مخاوف عند كثر، إذ عند مناقشة قانون إنشاء محافظة كسروان- جبيل في مجلس النواب أمس الأول، رفع النائب أكرم شهيب الصوت وطالب بإعلان محافظة الشوف- عاليه، وقد يكون هذا الأمر مطلباً حقاً، لكنّه يكرّس محافظةً ذات غالبية طائفية من لون معيّن.

ويشير كثيرون الى أنّ جبل لبنان يفقد خصوصيّته تباعاً، فالمسألةُ ليست طائفية أو مذهبية، بل إنّ الجبل يُعتبر البقعة الأخيرة للمسيحيين في الشرق، وإذا فقد هذه الخصوصيّة فإنّ المسيحيين الى زوال ولن يستطيعوا الحفاظ على وجودهم بعد تهجيرهم من العراق وسوريا.

فمنطقة الشوف وعاليه تفتقد الى مسيحيّيها الذين تهجّروا ولم يعد إلّا القليل منهم، وبات الدروز والسنّة في الشوف، والدروز في عاليه، هم الغالبية، بينما تعاني بعبدا من إرتفاعٍ في أعداد الشيعة وتزايدٍ في أعداد الدروز، فالضاحية الجنوبية كانت في معظمها للمسيحيين لكنهم غادروها بلا رجعة، وإذا إستمرّ هذا الأمر على هذا المعدّل سيصبح المسيحيون أقلّية في بعبدا.

كما تشهد جبيل تمدّداً شيعياً مماثلاً، وقضية لاسا من جهة، ومحاولة وضع اليد على مشاعات العاقورة العام الماضي من جهة أخرى أكبرُ دليلٍ على محاولات السيطرة الممنهَجة، في حين أنّ قضاءَي المتن وكسروان باتا يحتضنان معظم مسيحيّي الجبل والأطراف نظراً لقربهما من العاصمة.

وامام هذا الواقع، والتراجع السياسي للموارنة والمسيحيين، لا يعارض المسيحيون استكمالَ مشوار التقسيمات الإدارية شرط أن يكون عادلاً ومدروساً، فهذا الأمر هو مطلبهم في الأساس، وقد يكون من المفيد مثلاً إنشاء محافظة البترون- الكورة- بشري- زغرتا، لتخفيف الضغط عن طرابلس، وتأتي هذه الخطوة بعد إعلان محافظة عكّار، وكذلك، فإنّ بيروت لم تعد تستقطب هذا الإكتظاظ، خصوصاً أنّ الضواحي باتت تشكّل ثقلاً كبيراً.

يُجمع كثرٌ على أنّ إعلان محافظة كسروان- جبيل يشكّل خطوةً تخفّف من معاناة الأهالي الذين يُضطرون للذهاب الى بعبدا لتخليص معاملاتهم، لكنّ جَعل جونية مركزاً للمحافظة الجديدة قد يزيد المعاناة، مع غياب رؤية واضحة لحلّ أزمة السير في المدينة، وهي أزمة تطاول كل لبنان وخصوصاً شمال لبنان، لذلك، فإنّ الخطوة الأساس يجب أن تبدأ بتوسيع أوتوستراد جونية قبل قيام مؤسسات المحافظة فيها، وإلّا سيترحّم المواطنون على بعبدا.

بين الحفاظ على خصوصيّة الجبل المسيحي وعدم تفتيته، والتقسيم الإداري بما يسهّل مصالحَ الناس، شعرةٌ رفيعة وقضية يجب أن تُقاس بميزان الجوهرجي، أمام التراجع الديموغرافي والجغرافي للمسيحيين.

ما يدفع بعض الأصوات الى المطالبة بالفدرالية، خصوصاً أنّ المناطق المسيحية تدفع الضرائب للدولة بينما لا تحصل على الخدمات المطلوبة، في حين أنّ الأزمة هي أزمة وطنية بامتياز، وليست طائفية، لأنّ الدولة غائبة ما يدفع المواطن الى «إستيطاء حيطها».