على وقع نتائج معركة جرود عرسال اللبنانية، يجتهد «حزب الله» في الظاهر لإعادة بشار الأسد إلى لبنان، أو إعادة لبنان إلى سوريا الأسد. في خطابه الشهير عام 2005، المؤسس للانقسام اللبناني الأطول بين معسكري «8 آذار» و«14 آذار»، قال حسن نصر الله التالي: «لا يستطيع أحد أن يخرج سوريا من لبنان، ولا من عقل لبنان، ولا من قلب لبنان، ولا من مستقبل لبنان». والحديث طبعاً عن سوريا الأسد التي بدأ بشكرها يومها حافظاً وبشاراً وجيشاً وشعباً.
في الأيام والأسابيع الماضية بدأ المحور الذي تدور حوله حركة «حزب الله» العسكرية والسياسية هو «التطبيع» مع سوريا الأسد. إعلامه استفاض في تظهير «الإيجابية» السورية حين قبلت دمشق أن تستقبل مقاتلي «النصرة» وعائلاتهم على أرضها. ونصر الله ونواب حزبه والوزراء، لم يتعبوا من تكرار مقولة التنسيق مع الأسد، في ملف النازحين السوريين تارة، وفي العمل العسكري المقبل ضد جيوب «داعش». وعلى طاولة مجلس الوزراء أعلن وزير «حزب الله» حسين الحاج حسن، أنه ذاهب إلى سوريا للمشاركة في فعاليات معرض دمشق الدولي المتوقفة منذ عام 2011، والمستعادة اليوم على وقع تدمير أحياء جوبر القريبة من موقع المعرض لضمان انعقاده بلا قذائف تأتي من هناك!
لا نجح «حزب الله» في استدراج الدولة اللبنانية إلى التنسيق مع جيش وحكومة الأسد، ولا نجح في انتزاع تكليف حكومي لبناني لزيارة وزيره إلى دمشق، ولا في الحقيقة هو معني بالأمرين.
يعلم «حزب الله» أن تعويم الأسد والعودة بعقارب الساعتين السورية واللبنانية إلى الوراء مسألة مستحيلة، وإن كان يحتاج للأسد ولو ظلاً في قصر المهاجرين كغطاء لمعركته ومعركة إيران في سوريا.
المسألة هنا تتعلق بجغرافيا النفوذ الإيراني على الساحة السورية، التي تعج بالروس والأميركيين والأتراك والإسرائيليين، بلا حضور عربي إلا في «سوريا الشتات»!
عسكرياً ومن خلال معركة جرود عرسال، تخلص «حزب الله» من جيب يزعج طريق دمشق حمص، ويتصل بالامتداد الجغرافي لشمال العاصمة دمشق، أي بعضاً من سوريا الإيرانية المفيدة. وسياسياً يحاول أن يعزز ويزيد النفوذ الإيراني داخل حكومة لبنان، باعتباره منطقة صراع ونزاع بين إيران والخصوم أنفسهم الذين تصارعهم وتنازعهم في سوريا. إنها عملية عسكرية سياسية متكاملة في سوريا ولبنان لتقول إيران: «أنا هنا، وهذه أوراقي على طاولة التفاوض حول سوريا»، في لحظة إقليمية ودولية معقدة.
إيران رضخت لنتائج الحضور الأميركي المباشر على الأرض السورية، والتزمت، بهدوء، بالحدود التي تسمح أو لا تسمح بها أميركا، وتأكدت من جدية ذلك عبر اختبارات أودت بطائرتين إيرانيتين من دون طيار، وبمجموعة تقاتل إلى جانب الأسد، وترتبط بخبراء الحرس الثوري الموجودين في سوريا.
وهي تراقب بحذر تصاعد التنسيق بين الجيش اللبناني والأميركيين، ووجود الخبراء، وتطور قاعدة رياق وغرف العمليات المشتركة، كما ترصد تنسيقاً مماثلاً مع البريطانيين.
في المقابل تستثمر إيران في التغيير الذي يطرأ بارتباك على مواقف الدول من الأزمة السورية، والبناء على نتائج هذه المواقف لتعزيز أوراقها. منذ سنة تغيرت أولويات تركيا في سوريا وتصدرتها أولوية منع ولادة كيان كردي على حساب أولوية إسقاط الأسد. ومع وصول الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الإليزيه تبدد عنوان إسقاط الأسد الذي رفعته فرنسا.
واشنطن أعلنت قبل أيام أنها أوقفت برامج مهمة لدعم المعارضة المسلحة، وانتشرت أنباء مربكة عن احتمال مغادرة الأميركيين قاعدة التنف في سوريا على الحدود مع العراق، سرعان ما نفتها قوات التحالف الدولي ضد «داعش». وكان سبق موقف لوزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، قال فيه إنه «لن يكون هناك دور لعائلة الأسد على المدى البعيد»، مشيراً ضمناً إلى أن رحيله اليوم غير وارد.
ونسب مؤخراً موقف لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير خلال لقاء له مع المعارضة السورية فُسر خطلاً على أنه تهيئة للقبول ببقاء الأسد خلال المرحلة الانتقالية وليس رحيله في بدايتها كما هو الموقف السعودي التقليدي، قبل أن يعيد مجلس الوزراء التأكيد على «مستقبلٍ جديدٍ لسوريا لا مكان فيه لبشار الأسد». زد على ذلك مواقف عربية كثيرة متوجسة من سقوط عشوائي للأسد، يفاقم الجحيم السوري ويوسع دائرة ارتداداته على أمن المنطقة واستقرارها.
كل هذه مؤشرات تقدمها إيران على أنها حاضر ثابت ومستقبل لن يأتي، وتسعى لاستثمارها في لبنان، قبل غيره.
والحقيقة أن لبنان متروك إلى حد بعيد؛ إعلامه متروك، على ما ظهر في التغطية المشينة لمعركة جرود عرسال، ولبنان ساحة إعلام قبل أي شيء. الجيوب والتكتلات المناهضة لإيران وسوريا متروكة بلا أي سقف يحميها. والأخطر الفكرة الآخذة في التبلور والقائمة على أن يُترك لبنان ليحكمه «حزب الله» ويبنى على الشيء مقتضاه.
العرب غائبون عن سوريا، لكن غيابهم عن المعادلة اللبنانية غير مبرر. والتذرع بأن لبنان لا يقدم الكثير استراتيجياً، لا يعني أن يترك البلد بلا مقومات صمود. لبنان ليس ساحة لتحقيق الانتصارات على إيران صحيح. لكنه ساحة صمود في مواجهة إيران، بل ساحة الصمود في مواجهة إيران.