أولويّتان تريدهما واشنطن من لبنان على أبواب معركة جرود القاع ورأس بعلبك: القضاء على «داعش» وعلى العناصر الإرهابية لهذا التنظيم، وخصوصاً الأجانب منهم، وعدم التنسيق مع «حزب الله» والجيش السوري.
 

بالنسبة إلى النقطة الأولى، فإنّ القيادة العسكرية الأميركية، وكذلك الدول المنضوية في إطار التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، تعمل على ملاحقة عناصر «داعش» حاملي الجنسيات الأوروبية والأميركية بغية قتلِهم ومنعِهم من العودة إلى الدول الغربية.

وعلى سبيل المثال عملت قوّة فرنسية على ملاحقة عناصر «داعش» في الموصل وفق لوائح إسمية وضَعتها المخابرات الفرنسية، وتتضمَّن «داعشيّين» يَحملون الجنسيات الأوروبّية وخصوصاً الفرنسية. ويَحوي صفوف هذا التنظيم كثيراً من هؤلاء في جرود القاع ورأس بعلبك، وهو ما يعني وجوبَ القضاء عليهم.

أمّا بالنسبة إلى النقطة الثانية، فإنّ واشنطن أبلغت إلى لبنان تمسّكَها المطلق بضرورة عدمِ تركِ «حزب الله» يستثمر ويستفيد من الانتصار على المجموعات الإرهابية في إطار سياسة احتواء نفوذ إيران الإقليمي، وهو ما يعني الحدَّ من تأثير قوّة «حزب الله» العسكرية والسياسية وتناميها، وهو ما يستوجب إيكالَ المعركة للجيش اللبناني وحده دون سواه، وإدراج الاستثمار السياسي في خانة الدولة اللبنانية لا «حزب الله».

ولكنّ «حزب الله» بدا أكثرَ دهاءً مع إعلان انتصاره على «جبهة النصرة»، خصوصاً مع دعوة أمينه العام السيّد حسن نصرالله الجيشَ اللبناني إلى تسَلّمِ مواقِعه كاملةً في جرود عرسال.

هذه الخطوة قطعَت الطريق على أيّ استهدافٍ سياسيّ لـ«حزب الله» لاحقاً، ولو أنّ واشنطن لا تزال متوجّسةً من أيّ استثمار لـ«حزب الله» في المعركة ضد «داعش». فالطريق الحدودي بين لبنان وسوريا يجب أن يخضع لسلطة الجيش اللبناني لا «حزب الله» وفق النظرة الأميركية.

ولم يعُد سرّاً هذا التجاذب الخارجي الذي واكبَ التحضيرَ لمعركة تطهير الجرود من التنظيمات المتطرّفة. جرى بداية التخطيط لضرب «داعش» وهو أحد أولويات واشنطن قبل أن يعدّل «حزب الله» خططه ليبدأ من «جبهة النصرة» خشية أن تذهب الحماسة الغربية بعد الانتهاء من «داعش» ليبقى تنظيم «النصرة» موجوداً.

وبَعدها طُرِحت التفاصيل العسكرية للمعركة ضد «داعش» مِثل الذخائر والأسلحة والقصف الجوّي، ومثلما اعترَضت واشنطن على مشاركة سلاح الجوّ السوري داخل الأراضي اللبنانية، اعترَض «حزب الله» على مشاركة طائرات التحالف الغربي خشية حصولِ «أخطاء» في القصف الجوّي ليطاولَ مجموعات «الحزب»، كما شاع ذلك في العراق وسوريا في عزّ المعارك.

فأجهزةُ الرصد الأميركية سجّلت خلال اليوم الأخير من معارك جرود عرسال قيامَ الطائرات الحربية السورية بنحوِ عشرين غارةً داخل الأراضي اللبنانية، وهي لا تريد تكرارَ ذلك لأنّها لا تريد تطبيعاً عسكرياً سابقاً لأوانه بين لبنان وسوريا، والأهمّ تريد حضوراً فاعلاً للجيش على الحدود.

وهذا ما يُفسّر إلى حدٍّ ما الاستعاضة عن التطبيع العسكري بتطبيع سياسي من خلال افتتاح سلسلة زيارات عمل لوزراء لبنانيّين إلى دمشق. ومن أجلِ ذلك انعقَد المجلس الأعلى للدفاع وأكّد أن لا شريك للجيش اللبناني في معارك جرود القاع ورأس بعلبك.

كلّ ذلك يوحي بأنّ الترتيبات بدأت تكتمل، ولكنّ العدَّ العكسيّ للساعة الصفر ينتظر الانتهاءَ من المفاوضات الجارية مع «سرايا أهل الشام». ففيما تمَّت الموافقة على نقلِ أهالي المسلّحين إلى قرى القلمون، رُفِض طلبُ المسلّحين الانتقال إلى منطقة الرحيبة في مقابل منحِ المسلحين خياراً من ثلاثة:

1 - الالتحاق بالجيش السوري مع تأمين ترتيب أوضاعهم.
2 - أو الالتحاق بمجموعات «حزب الله» التي تقاتل في سوريا.
3 - أو تسليم سلاحِهم إلى الجيش اللبناني أو الأمن العام أو «حزب الله»، مقابل السماح لهم بالبقاء في مخيّمات النازحين قرب عرسال.

والواقع أنّ التعاطي بمرونة مع هذه المجموعة يعود إلى التعاون الذي أبدته قبل اندلاع المعارك مع الجيش السوري و»حزب الله»، ووصَل هذا التعاون إلى حدّ تسليم أحدِ مراكزها إلى «حزب الله»، ما أعطاه موقعاً متقدّماً خلال هجومِه على مواقع «النصرة».

وفي انتظار استكمالِ المفاوضات مع «سرايا أهل الشام»، يَستكمل الجيش اللبناني مهمّات الاستطلاع وهو الذي يحتاج لإنهاء وضعِ هذه المجموعة، لكي لا يكون ظهرُه مكشوفاً في مدينة الملاهي ووادي حميد.

إذاً، بات واضحاً أنّ الجيش اللبناني سيُنفّذ العملية لوحدِه ومن دون التنسيق مع أيّ قوّة ثانية، بعدما هدَّد الأميركيون بوقفِ تزويده الذخائر والأسلحة، وسيَستعين بسلاح الجوّ اللبناني المتواضع والمؤلّف من طائرات «السيسنا» والمروحيّات القتالية المزوَّدة منصّات لإطلاق الصواريخ.

لكنّ هناك حقائق ميدانية لا يمكن تجاهلها، أبرزُها أنّ «داعش» يُسيطر على منطقة لبنانية مساحتُها نحو 110 كلم2، وأخرى سوريّة مساحتها 140 كلم2، ما يَعني أنّ التنسيق الميداني للمعركة لا بدّ أن يحصل ولو بحدِّه الأدنى والضروري. فمثلاً لا بدّ من أن تبدأ المعركة من الجهتين في الوقت نفسه، كما أنّ «حزب الله» سيشارك من الجهة السوريّة لا اللبنانية، مع تأكيد أنّ المنطقة اللبنانية هي من مسؤولية الجيش اللبناني وحدَه دون سواه.

كذلك، فإنّ عناصر «داعش» الذين تتراوح أعدادهم وفق التقديرات العسكرية بين 450 و800 عنصر سيَعملون على استغلال غيابِ التنسيق العسكري بين الجبهتين الشرقية والغربية، ولكنْ هنالك مكتب عسكري يتولّى التعاون اللبناني - السوري إضافةً إلى سفارتي البلدين على المستوى السياسي.

لكنّ التقديرات تعطي مهلةً أقصاها شهر للقضاء على «داعش»، إلّا إذا رضَخ عناصر التنظيم خلال الأسبوع الأوّل تحت وطأةِ المفاجأة العسكرية التي تمَّ تحضيرها وذهبَت الأمور في اتّجاه التفاوض، كما حصَل مع «النصرة». فالمعركة الوشيكة تتألف من مراحل عدة.

خلال الأيام الماضية، حاوَل «الداعشيّون» اللعبَ على وتر الحرب النفسية، فأطلقوا صواريخَ من عيار 107 ملّم للإيهام بأنّ لديهم مخزوناً وافراً من السلاح والذخائر ويستعجلون القتال.

لكنّ التقديرات العسكرية تتحدّث عن واقعٍ مختلف كلّياً لـ»داعش». فصحيح أنّ هذا التنظيم كان قد استولى مسبَقاً من المخازن في سوريا على صواريخ من نوع «كورنيت» يصل عددها إلى نحو الـ300 صاروخ، لكنّه استخدم بعضَها خلال السنوات الثلاث الماضية، وبات مخزونه أقلَّ بكثير، وهذا ما ينطبق أيضاً على صواريخ «ميلان».

ولـ«داعش» أسلحة غنمَها منذ ثلاث سنوات من الموصل لكنّها تحت الرصد والمراقبة، كما أنّ بعضها أصبح معطّلاً ويفتقد إلى قطع الغيار.
في التقويم النهائي، تبدو قيادة الجيش اللبناني على درجة عالية من الثقة بإحراز الضربة الموجعة، وكذلك القيادة الوسطى للجيش الأميركي التي أبلغت إلى لبنان أنّها مستعدّة لتلبية حاجات الجيش من الذخائر كما فعلت دائماً خلال المراحل الماضية، إضافةً إلى دورات التدريب.

وخلافاً لِما أشيعَ سابقاً حول مشاركة عسكرية أميركية مباشرة، فإنّ الضبّاط الأميركيّين الموجودين في لبنان لديهم مهمّات تتعلّق بالمساعدات الأميركية والتدريب لا بالمشاركة الميدانية الفعلية، وإدارة المعارك.

فمثلاً يتوجّه فريق من هؤلاء لدى هبوط كلِّ طائرة أميركية تحمل المساعدات العسكرية والذخائر، بهدفِ التأكّد من الحمولة كاملةً، ويعمل على تسليمها وفقَ بيانات رسمية مفصّلة ومكتوبة، وهذا ما يحصل أخيراً في مطار رياق العسكري.

ولهؤلاء الضبّاط مهمّات إضافية تتعلّق بمتابعة مصير الأسلحة والذخائر، كالكشف عليها دورياً والتأكّد من عددها، وخصوصاً الصواريخ النوعية لتبيان مصيرها، وضمناً للتأكّد من عدمِ وقوعها في يد «حزب الله»، مع الإشارة إلى أنّ الرقابة الجوّية الأميركية تقوم بإحصاء أعداد الصواريخ والقذائف التي تُستخدم في الميدان.