التنازل عن حقوق السنـّة يهدّد الصيغة اللبنانية ولا يحصّنها
 
إعتقد كثيرون أن أوضاع تيار المستقبل ستستقر وتعود المياه إلى مجاريها بمجرد عودة الرئيس سعد الحريري وتوليه زمام المبادرة ، بحيث تزول مراكز القوى وتختفي التناقضات وتعود مركزية القرار ، بالتوازي مع ترتيب الأوضاع التنظيمية لتعويض فترة الفراغ والغياب والخسائر التي لحقت بالتيار.
لكن الوقائع جاءت بعكس المتوقع. فالخطوات التنظيمية لم تكن كافية لتفعيل العمل السياسي ، ورغم وجود الحريري على رأس الحكومة ، فإن الحصاد يبدو متواضعاً قياساً إلى ما هو متوقع ، في حين لا تزال إشكاليات كبرى تفرض نفسها ، مع الإعلان عن مجموعة العشرين وعن استمرار التباين الواضح مع الرئيس السنيورة ، والتباين المضمر مع الوزير نهاد المشنوق ، فضلاً عن إستمرار المراوحة في العلاقة مع النائب أحمد فتفت.
فالقانون الإنتخابي الذي أقره مجلس النواب بتسهيل من الحريري سيمنع عملياً الرئيس السنيورة من الترشح في صيدا لإستحالة فوزه ليس لإفتقاره للشعبية وإنما بسبب القانون الذي يتضمن الصوت التفضيلي والتداخلات بين صيدا وجوارها ، وهذا سيعني إخراجه من المشهد البرلماني أو اللجوء للترشح في بيروت مما يفتح الباب أمام إشكالية كبرى في كلتا الحالتين.
أما النائب فتفت فإن العلاقة معه لا تزال تعاني تداعيات الموقف من انتخابات رئاسة الجمهورية ورفض فتفت لإنتخاب الرئيس عون ، فضلاً عن أن الصوت التفضيلي سيضع تيار المستقبل في موقف سيء في قضاء الضنية ، حيث سيستحيل عليه قسمة أصوات ناخبيه بين النائبين فتفت وقاسم عبد العزيز ، وتحديداً بعد فصل المنية عن الضنية إنتخابياً.
 
إستبعاد النخب وصرخة مجموعة العشرين
 
عمل الحريري على إقصاء رموز لطالما عُرفت بالحنكة والعمق السياسي والفكري وبالثبات في المواقف ، وأبرز هؤلاء الدكتور رضوان السيد ، الذي أخرجته انتخاباتٌ جاءت بمجموعة يسهل التحكم بها إلى المكتب السياسي لتيار المستقبل ، في حين لعب السيد أدواراً مركزية في الحفاظ على الجسور بين الحريري وبين شرائحَ واسعة من المسلمين الذين يعانون من سوء التواصل مع الحريري ومن تقصيره في مختلف المجالات.. 
رغم جهد الدكتور السيد إلى جانب الحريري ، إلا أن الأخير رفض دخوله أي حكومة كان له فيها القرار ، وهذا أمر مستغرب ، خاصة أنه أتي بكثير من الوزراء الذين يفتقرون إلى الحدّ الأدنى من الخبرة والتماسك والحضور ، فكانوا وبالاً عليه وعلى من يمثـّلون في السلطة التنفيذية.
غادر الدكتور السيد اليوم عملياً تيار المستقبل وبات يعمل في نطاق إسلامي واسع لا يجمعه مع الحريري ، بل يفتح الأفق نحو تشكّل حالة نخبوية معارضة لمسارٍ بات يهدّد مستقبل المسلمين السنة في لبنان ، حسب ما صرّح الكثيرون من مجموعة العشرين.
 
إشكالية الأداء النيابي
من أسوأ ما يعانيه نواب المستقبل هو تلك المركزية المتطرفة في التحكم ، والمترافقة مع تراخي المواقف تجاه الإستحقاقات العامة التي يفترض فيها بالنواب أن يدافعوا فيها عن حقوق ناخبيهم الذين أتوا بهم إلى مجلس النواب.
والواقع يقول: إن عدداً من النواب اعترضوا تحت ضغوط ناخبيهم على ضياع حصة السنة في مراكز كثيرة ، فكان الرد بإلزامهم الصمت ، فتبخـّر هؤلاء النواب واختفوا من المشهد ، مما أحدث فراغاً إضافياً كان يمكن ملؤه بمتابعة شؤون الناس الحياتية والخدماتية والوظيفية.
 
 • إشكالية التوظيف والتنمية
 
كان يُفترض أن يُحدِث وصول الرئيس الحريري إلى رئاسة الحكومة صدمة إيجابية واستنهاضاً للمناطق التي يمثلها ، لكن نعمة التنمية إقتصرت على افتتاح وصلة جسر في طرابلس إستغرق إنجازها قرابة العقد من الزمن لتنتهي عند عقد السير قبالة مرفأ طرابلس.. في حين يستمر مجلس الإنماء والإعمار في عقاب المناطق ذات الثقل السني بأسوأ أداء وبأدنى مستوى من المعايير وخاصة في الشمال..
في المقابل تتحرك مشاريع الإنماء في مناطق مختلفة ميزتها أنها ليست محسوبة على تيار المستقبل.
 
عندما يطالب المسلمون السنة بالحفاظ على وجودهم في الدولة ، فإن ذلك يأتي أولاً في إطار الحق الطبيعي الذي كفله لهم الدستور ، وحدّد لهم بموجبه مكاناً ومكانة في المواقع الحكومية ، وثانياً لأن لبنان يشهد موجة إجتياح غير مسبوقة يقوم بها أطراف شركاء للرئيس الحريري في الحكم ، في حين أنه يقف مكتوف الأيدي ، وهو يشاهد ما يشبه إنقراض السنة من الوظائف الرسمية وعلى مختلف الدرجات والأوزان ، وما يجري في مؤسسة "أوجيرو" نموذج لا يحتاج إلى كثير شرح..
ومن أجل الحفاظ على حقوق المسيحيين في الدولة نشأت مؤسسة "لابورا" برعاية الكنيسة المارونية ، من دون أن يتهمها أحد بالطائفية ، كما أن "التيار الوطني الحر" يخوض "حروباً مقدسة" للسيطرة على الدوائر والمواقع ، وعلى حساب غيره من المسيحيين ، وغيره من الطوائف الأخرى ، وتحديداً المسلمين السنة ، في ظلّ صمتٍ مريب من الرئيس الحريري الذي يرى من يفترض أنهم محسوبون عليه يتطايرون من "أوجيرو" وغيرها من المواقع.
 
أين تتجه بوصلة الضياع؟
 
في وقت تتجه فيه المنطقة إلى أنظمة حكم لامركزية سياسية أو إدارية ، وخاصة في سوريا والعراق ، ويتحوّل لبنان أكثر مما كان عليه فدرالية طوائف ، ويتقدّم الجميع دون مراعاة للصيغة اللبنانية ، يقف الرئيس الحريري عاجزاً عن الدفاع عن الصيغة ، مسهماً بذلك بسقوطها عندما يقبل بانهيار التوازن الوطني الذي يشكل السنـّة عمادُه في لبنان.