صحيح أنّ التحضيرات التي سبقت زيارة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الى الجبل كشفت عمقَ الخلاف والتنافر بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، لكنّ الرهان على الذهاب بعيداً وصولاً الى الصدام يبقى رهاناً غير واقعي أقلّه في الأمد المنظور.
 

قريباً جداً سيطلب رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع موعداً للقاء رئيس الجمهورية في قصر بعبدا حيث سيدخل عبر هذا الباب لإعادة تبريد الحماوة الحاصلة وإعادة الخلافات الى مستويات مقبولة لأنّ التفاهمَ الكامل لا يبدو متيسّراً، ولهذا الأمر أسبابه.

خلال الأعوام الأخيرة، ثلاث محطات أساسية طبعت علاقة «التيار الوطني الحر» بـ«القوات اللبنانية»:

ـ المحطة الأولى، وهي تشكّل امتداداً طبيعياً لحال العداء التي كانت قائمة بين الطرفين والتي اندرجت وفق اصطفاف «8 و14 آذار» وهي ظهرت بنحو فاقع مع رفض جعجع «نصيحة» الاباتي بولس نعمان بإنجاز تفاهم جانبي مع عون على أساس تبنّي جعجع ترشيح عون، على أن يكون جعجع هو المرشح المسيحي للولاية التالية.

كذلك أبدى جعجع غضبه الشديد من الرئيس سعد الحريري الذي كان باشر تفاوضاً سرّياً مع عون حول رئاسة الجمهورية أجهضته السعودية يومها.

ـ المحطة الثانية، جاءت بعد سنوات مع انعطافة جعجع عبر إنجاز ما عُرف بـ»تفاهم معراب» والذي في جوهره تبنّي ترشيح عون لرئاسة الجمهورية، وقد أُرفق هذا التفاهم بعدد من البنود التي تشكّل إطاراً يُنظّم العلاقة بين الطرفين داخل السلطة بعد وصول عون.

ويومها انقسمت الآراء بين مَن اعتبر أنّ جعجع مؤمن فعلاً بمشروع إيصال عون ليفتح طريق بعبدا أمام وصوله هو بعد ست سنوات بدليل البنود التي ترعى حصص الطرفين داخل السلطة، وبين مَن هو واثق من أنّ جعجع أراد رَمي وطأة حمل الوقوف في وجه وصول عون على كاهل الحريري في ظلّ المناكفات التي كانت قائمة بينهما، وأنّ جعجع كان أكثر المستائين عند اكتمال عقد التسوية لكنّه آثر الاندفاع الى الأمام أكثر والشروع في خطة الطوارئ التي وُضعت وعُرفت ببنود «اتفاق معراب» حول تقاسم السلطة.

يومها باشر جعجع بانتهاج سياسة توسيع حصّته الحكومية وداخل الإدارة الرسمية الى الحدّ الاقصى، إضافةً الى حصّته النيابية تحت شعار جديد هو الثنائية المسيحية والتوازن مع المسلمين على أنقاض شعار «8 و14 آذار».

ـ المحطة الثالثة كانت مع إقرار قانون جديد للانتخاب سمح لـ»القوات اللبنانية» بـ»التحرّر» انتخابياً خصوصاً في دوائر جبل لبنان والتي شكّلت ولا تزال هدفاً «قواتياً» ملحّاً لاختراق هذه الدوائر التي تمنح عملياً ممثليها شرعية التمثيل المسيحي على مستوى الدولة.

ومنذ إقرار هذا القانون، باشر جعجع انتهاجَ سياسة مختلفة عن سياسة الرئيس الجديد لـ»التيار الوطني الحر» جبران باسيل تقوم على المناكفات والاشتباك، ولكن تحت سقف عدم العودة إلى العداء.

ووفق هذا السياق، أخذ الخلاف بين الطرفين بعداً إعلامياً واضحاً مع التحضير لزيارة عون الى دير القمر. ولأنّ تظهيرَ الخلاف وصل الى سقف مرتفع، كان لا بد من إعادة تنفيسه واحتوائه.

فأن يأخذ تعليقُ صور رئيس الجمهورية هذا الجدل لدى بلدية محسوبة على «القوات اللبنانية» فهذا له دلالاته، وأن يعتذر رئيسُ الجمهورية عن المشاركة في الغداء فهو مؤشرُ استياء، وأن يغيب عددٌ من الشخصيات مثل النائب وليد جنبلاط الذي اكتفى بإيفاد نجله فيما غاب ممثل رئيس الجمهورية عن احتفال المصالحة المنظّم من «القوات» والحزب التقدمي الاشتراكي رغم وجود ممثلين عن رئاستي مجلس النواب والوزراء، ففي ذلك مؤشرات سياسية تصل الى حدود التحالفات الإنتخابية لاحقاً: لائحة للحزب التقدمي الإشتراكي و«القوات» في مقابل لائحة لـ«التيار الوطني الحر» وتيار «المستقبل».

وطوال الأسابيع الماضية، بقي خطّ التواصل بين «التيار» و«القوات» مقطوعاً ولكي تبقى اللعبةُ وفق الحدَّين اللذين يريدهما طرفا النزاع أي بين اللاتحالف واللاعداء، سيزور جعجع عون في قصر بعبدا مدخلاً لإعلان وقف اطلاق نار مع باسيل ولإعلان شكواه ولو بأسلوب ديبلوماسي مرن.

قد يكون باسيل نجح في دفع جعجع الى الخروج من مخبئه طلباً لوقف اطلاق النار بعدما اعتقد قريبون من «القوات» أنّ التصعيد الإعلامي الذي حصل يقف وراءه باسيل. ويذهب هؤلاء في قراءتهم الى ما هو أبعد.

فالتصعيد الإعلامي، في رأيهم، له أبعاد وأهداف تصل الى حدود فتح الطريق أمام إمرار بواخر توليد الكهرباء، ولكن يبدو أنّ جعجع الذي يشتكي من التعيينات ولكن من دون أيّ ردة فعل، يتمسّك في المقابل بإسقاط ملف بواخر الكهرباء الى جانب تحالف عريض يضم إليه رئيس مجلس النواب نبيه بري وجنبلاط ورئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية.

ويعتبر جعجع أنّ الضغط المعنوي الحاصل هو لتطويع موقفه ولكنّه لن يتراجع، وأنّ معارضته ليست فقط في وجه «التيار الوطني الحر»، وإنما في وجه تيار «المستقبل» أيضاً. «يريدون منا الموافقة على كل شيء وهذا لن يحصل»، يقول أحد المسؤولين «القواتيين».

في المقابل لا تبدو الصورةُ نفسُها لدى الفريق الآخر: «يريدون ضربَ العهد وإنجازاته عبر عرقلته وتشويه صورة جبران باسيل لحسابات سياسية ورئاسية». ويقول هؤلاء: «أعطيناهم كثيراً واستمرّوا في الشكوى والمطالبة. فمثلاً أعطيناهم في التشكيلات الديبلوماسية كلّ ما طلبوا وفوجئنا بتحفّظهم في مجلس الوزراء».

لكن وفيما النزاعُ الصامت بين الفريقين يأخذ وجوهاً متعددة، بدا التسويق الإعلامي لـ»القوات» مع الاوساط الشعبية أفضل بكثير وأكثر ذكاء في مقابل شلل، لا بل غياب كامل، للتسويق الإعلامي لدى «التيار الوطني الحر»، لا بل لدى رئاسة الجمهورية أيضاً، وبدت الساحة خاضعةً بكاملها لنظريات خصوم باسيل واتهاماتهم.

وبعد زيارة جعجع الى قصر بعبدا، من المفترض أن تتراجع الحملات الإعلامية ولكن على زغل، أو بتعبير أوضح، هدنة موقتة من دون حلّ ثابت في انتظار مواجهات جديدة لا تبدو بعيدة. فوفق ما يبدو، بات من الصعب جداً التفكير في لوائح إنتخابية مشترَكة ولو في بعض الدوائر، ورسائل التمريك الانتخابي تعزّز هذا الاعتقاد.

«التيار الوطني الحر» المتحالف مع تيار «المستقبل» والذي يتّكئ على تفاهم في العمق مع «حزب الله»، باشر وضع تصوّره، فيما «القوات اللبنانية» المتفاهمة مع الحزب التقدمي الاشتراكي تنظر بعين الريبة والقلق الى قرار تيار «المستقبل». لكنها في الوقت نفسه باشرت وضع تصوّراتها على أساس تأمين الحاصل الانتخابي لوحدها وبمعزل عن «التيار الوطني الحر».

هكذا تبدو الصورة في دوائر جبل لبنان، وجزين وزحلة وبيروت. لكن في «دائرة الموت» في الشمال حيث البترون والكورة وزغرتا وبشري، فالمسألة تجري مقاربتها بروية اكبر، لأنّ الخطأ هناك يعني اعلان حال الحرب مجدداً.

فالتواصل بين جعجع وفرنجية والذي أزعج باسيل كثيراً بقيَ وفق الوتيرة نفسها، أيّ من دون رفع درجة التواصل أكثر تجنّباً لرفع مستوى التحدي أكثر. وحتى الآن تبدو هذه الدائرة وكأنها ذاهبة في اتجاه معركة انتخابية وفق لوائح انتخابية ثلاث: «التيار»، «المردة» و»القوات».

لكنّ المحظور يمكن أن يقع في حال اندفعت الأمور لتصل الى تحالف «قواتي» مع «المردة» في وجه «التيار الوطني الحر»، وهو ما يعني عندها العودة الى مربّع العداء وهو ما يشكّل خطاً أحمر.

لكنّ الواضح أنّ القرار الحالي هو بعدم ترك القضايا الخلافية تتفاقم، في وقت يُراقب جعجع بقلق اندفاع باسيل في خطة ترسيخ قواعد جديدة للعبة تُعطيه حق إدارة واستثمار الإرث السياسي للرئيس ميشال عون على حياة الأخير وبمباركته، فتصبح قاعدة ثابتة مستقبلاً، مع الاشارة الى العلاقة المميّزة التي عادت تربط باسيل بقيادة «حزب الله» رغم كل ما يُقال ويتردّد في الإعلام.